الإمام المؤيد بالله أبو طالب الأخير يحيى بن أحمد بن الحسين بن الإمام الكبير المؤيد بالله أحمد بن الحسين عليهم السلام.
دعا سنة اثنتين وخمسمائة، وكانت حاشيته من أهل العلم اثني عشر ألفا على مذهب الهادي إلى الحق عليه السلام.
قال الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام في الشافي: قام في الجيل والديلم بعد جمعه لخصال الإمامة، وإحرازه لفنون الزعامة، وأطبق عليه العلماء والسادة، بعد أن ناظروه شهرا فوجدوه جامعا لخصال الإمامة، وله مع ذلك معرفة بالطب والحساب، وسائر العلوم الخارجة عن باب الإمامة، انتهى.
وألقى الله على هذا الإمام من الهيبة والجلال ما لم يكن لأحد، وكانت خزانته تحتوي على اثني عشر ألف مجلد، وكانت جل حروبه مع الباطنية، قتل منهم في يوم واحد ألفا وأربعمائة، ولم يزل مشتغلا بحرب الملاحدة، وغزا في البر والبحر، ورجفت منه قلوب الظالمين، وهابته في جميع الأقطار، وحدثت في عصره حمرة عظيمة، ملأت الأفق في السماء، فقال العلماء: إن هذه الآية من عهد إبراهيم عليه السلام في أنه لا يحدث في ولده أمر يرفعهم إلا خرجت هذه الآية، ووجد مثل هذا في أيام الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام.
نعم، وهذا الإمام هو المجدد في الخمس المائة.
وقتل في أيامه: السيد المحسن بن الحسن بن الناصر بن الحسن بن عبدالله بن المنتصر بالله بن المختار بن الناصر بن الهادي، قتله الحدادون بصعدة، وقتلوا ولده. وقد كان أنفذ إلى أرض اليمن قدر خمسمائة وعشرين ألفا من طريق عمان.
وقام بثأر السيد المحسن بن الحسن الشريف الواصل من جهة الإمام، وهو أبو عبدالله الحسين بن عبدالله بن المهدي بن عبدالله بن الإمام المرتضى لدين الله محمد بن الإمام الهادي إلى الحق سلام الله عليهم، وكان خروجه من الديلم، وولاه الإمام أبو طالب الأخير ما بين مكة إلى عدن أبين وسائر نواحي اليمن الأقصى، وعهد إليه عهدا في الولاية سطعت من أرجائه أنوار النبوة والوصاية، وطلعت في أكمامه أثمار الدراية والهداية، وفاضت جداوله بتيار العلوم، وفارت معاينه بأصداف الفرائد من المنطوق والمفهوم، تضمن الأحكام الإلهية، والحجج الربانية من الفروع والأصول، وبين أعلام السيرة النبوية، والطريقة الإمامية بأدلة المسموع والمعقول، بألفاظ الفصاحة والبلاغة العلوية، المدمجة بالأنواع البديعية، وإليك نفحة من نفحاته، ولمحة من لمحاته، بتصرف يسير، قال عليه السلام:
هذا ما عهده الإمام الحق أبو طالب يحيى بن أحمد بن الحسين الهاروني إلى السيد الأجل العالم أبي عبدالله الحسين بن الهادي بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعز الله رايته حين سبره وخبره، وشاهد منظره ومخبره.
حتى قال: وولاه وفوض إليه الخلافة والقضاء ما بين مكة إلى عدن، وسائر نواحي اليمن الأقصى، وأمره أن يستشعر طاعة الله وتقواه، ويؤثر مراده ورضاه، فيما أعلن من أمره وأخفاه، وأن يدرع درع طاعته كنه قدرته واستطاعته، وليحكم بما أنزل الله، ?ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون? [المائدة:145]، وليعلم أنه علام الغيوب، وبيده أزمة القلوب، ?يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور? [غافر:19].
وأمره بتقديم الحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، فيما يستنبط منه العلم، ويستخرج منه الحكم، فيبدأ بأعلاها طبقة، وأسناها درجة، وأسبقها حكمة، وهو الحق اليقين، والنور المبين، كتاب الله العزيز، وحرزه الحريز، المنجي من الردى، والمزجي نحوه الهدى، والمصباح الأزهر، والصباح الأنوار، والمهيع الألوح، والمشرع الأروح، والمتين الذي لا يتضعضع، والمكين الذي لا يتزعزع، يجد عنده الأمن والأنس، وعجز عنه الجن والإنس، وانتفى عنه العمى واللبس، شفاء لما في الصدور، ورحمة للمؤمنين، فمهما حز به مشكل، أو دهاه حكم معضل، فزع إلى نصوصه، وفحص معنى عمومه وخصوصه، وأتمر بأوامره، وانزجر عن زواجره، وقام بحدوجه، عمل بعهوده، ولم يعده إلى ما عداه، ما وجد فيه نصا أو فحواه.
وأمره إن أعوزه في هذه المظنة أن يتطلبه فيما يتلوه من السنة، فيتخذه للقضاء فصلا، سواء ثبت قولا أو فعلا، فهو الحجة الثانية للقرآن، والمحجة التالية للفرقان، والمضاهي له في الحجة، وإن فاضله في البهجة، والمداني في الإيجاز، وإن لم يبلغ حد الإعجاز، ?وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى? [النجم:4]، إذا تواتر أوجب العلم والعمل، وإذا تقاصر فروي بطريق الآحاد لزم العمل، وإن تعارض الخبران، وتناقض المخبران، فسبيل المجتهد أن يبحث عن التاريخ، فإن وجد وإلا عمل على الترجيح، فأخذ عند ذلك بالتحقيق، وسلك فيهما طريقة التلفيق، إن دفع فيهما إلى المضيق، أو يعدل إلى ما سواه من الدليل، إن لم يمكن التأويل، ففي السنة الخروج من السنة، ?لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة? [الأحزاب:21]، فسبيل المجتهدين أن يتنبهوا، ?ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا? [الحشر:7].
وأمره إذا أعوزه ما تعلق من هذين بالسماع، إلى طلب شاهد الإجماع، فالإجماع يجري بعد الكتاب والسنة، للمتمسكين به مجرى الجنة، والطريق الهادية إلى الجنة من حيث دل الأولان عليه، وأشار الأفضلان إليه، فمهما وجد في إجماع العترة مندوحة عما عداها، ساق مطية الطلب إليه وحداها، فإن وجدهم موافقين لسائر الأمة، كان المدار عليهم لجلاء الغمة.
إلى أن قال: طلب الحق من أقوال ذي العصمة من الأئمة، فذلك يقوم مقام قول نبي الرحمة، وهم الوصي والسبطان، عليهم صلوات الملك الديان، وإليه أشار الرسول لمن سمعه حيث يقول: ((علي مع الحق والحق معه)).
وأمره إذا لم يجد شفاء الصدور في هذه الآساس، أن يفزع إلى الاستنباط والقياس، ويتأنق في رد الفروع على الأصول، ليظفر من الغرض بالمحصول، متخذا فكره مطية الوصول، فما وجد له أصلا عتيدا، وركنا وطيدا، وأساسا مهيدا، ألحق به حكم الفرع، وقضى حق دلالة الشرع، وحقق فيه تعليلا، وعلى العلة دليلا، ثم عول عليه تعويلا ، فلا بد في كل حادثة من حجة، وإن كانت ربما ولجت غموضا في لجة.
إلى أن قال: وأمره برفع الحجاب، وقمع الهوى والإعجاب، والتثبت في الجواب، وتبين الخطأ من الصواب، بعد أن قال: ويميل مع الحق حيث مال، ولا يدع التعديل والاعتدال، والظلم مطعمه وخيم، ومرتعه ذميم:
ولكنه في الشمس والبدر أشنع
وكل كسوف في الدراري شنعة
وأمره أن يقرر حكومات من كان قبله من قضاة المسلمين، وأن لا يتعرض لشيء منها بالتغيير والفسخ، والتبديل والنسخ، ما لم يخالف نصا من الكتاب والسنة مقطوعا، أو إجماعا قد خالفوه مفرقا أو مجموعا، فالاجتهاد لا ينقض بالإجتهاد، والظن لا يتعرض على الظن الواقع بالإشهاد ?كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين? [المدثر:38- 39]، وليخف الله جل ثناؤه في العدول عن العدل: ?إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون? [النحل:90]، وليستعن بالله يعنه، وليسترعه يرعه، وليتوكل على الله يزده، وليسترشده يرشده ?ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا? [الطلاق:3].
وسبيل رعايانا أن يجيبوا أمره ولا يعصوه، ويعضدوه وينصروه.
أيها الناس، من أطاعه فقد أطاعنا، ومن أطاعنا فقد أطاع الله ورسوله، ومن عصاه فقد عصانا، ومن عصانا فقد عصى الله ورسوله، ?وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا? [الأحزاب:36]،..إلى آخره.
توفي عليه السلام: سنة عشرين وخمسمائة، وأوصى أن يدفن سرا، خوفا من الملاحدة لعنهم الله تعالى.
وأهل هذا البيت النبوي الذي استودعهم الله العلم المخزون، والسر المكنون، يتحير الناظر في صفاتهم، فكل ما نظر في فضائل إمام وفواضله، خطر له أنه أفضلهم، وإذا ما انتقل إلى آخر كذلك، وما هم إلا كما قيل في تشبيه حال المفردين المختلفين بالتقييد من المجمل الخفي وجهه، هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها.