الإمام يحيى بن عبدالله (عليهما السلام )
وثالثهم: الإمام أبو الحسينن يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن السبط، أخو الإمام محمد بن عبدالله النفس الزكية، والإمام إبراهيم عليهم السلام.
صفته: قال الإمام أبو طالب عليه السلام: كان عليه السلام آدم اللون، حسن الوجه، إلى القصر.
دعوته عليه السلام
دعا عليه السلام بعد قتل الإمام الحسين بن علي، وكان في الوقعة التي قتل فيها، وأصيب ذلك اليوم بثمان وسبعين نشابة التي استقرت في درعه، وأخرج عليه السلام بعدها إلى اليمن ودخل صنعاء، وأخذ عنه علماء اليمن.
قال الإمام الهادي عليه السلام في الأحكام: ويحيى بن عبدالله بن الحسن القائم لله المحتسب، الصابر لله على الشدة والغضب.
وبعد دعائه اغتاله هارون الغوي، أخو موسى الذي تقدم، وقد كان أسلم على يديه ملك الترك، وغدر به هارون في قصة طويلة، واختلف كيف وقع قتله.
وجال في البلدان ودخل اليمن، وأقام في صنعاء شهورا، وأخذوا عنه علما كثيرا، ودخل بلاد السودان ووصل بلاد الترك، فتلقاه ملكها بأعظم ما يكون من الإكرام، وأسلم على يديه سرا ؛ لأن يحيى عليه السلام قال له: لا يقبل الله منك هذا إلا بالإسلام، قال: فإن أسلمت ظاهرا قتلني الترك، واستبدلوا بي، فأسلم سرا، وبث يحيى عليه السلام دعاته في الآفاق فجائته كتبهم ببيعة مائة ألف من المسلمين فيهم الفقهاء والعلماء، فقال يحيى: لا بد من الخروج إلا دار الإسلام فنهاه ملك الترك عن ذلك، فقال: إنهم يخدعونك فلا تغتر، قال يحيى: لا أستجيز فيما بيني وبين الله أن أقيم في بلاد الشرك ومعي مائة ألف مقاتل، فخرج إلى جبال الديلم.
وقال: إن للديلم معنا خرجة، فأرجو أن تكون معي، وهي لا شك كانت مع الناصر الأطروش عليه السلام، فلما استقر في بلاد الديلم وافاه من المائة سبعون رجلا.
وبلغ الخبر هارون الرشيد، فضاقت عليه الأرض برحبها، وقطع الخمر، ولبس الصوف وافترش اللبود، وأظهر العبادة، وجمع عسكرا عظيما قائده الفضل بن يحيى البرمكي فيه خمسون ألف مرتزق غير الأتباع فيهم صناديد وقواد، وما استقل له الجيش إلا بخمسين ألف ألف دينار، وحملت معه أموال جليلة للنفقات من أموال المشرق التي بين يديه، وأمره أن يبذل لجستان ما انتهت إليه بغيته، وكذلك أوصاه أن يعرض على يحيى كل أمر يحبه من أموال وقطائع وصيانة جانبه، واحترام شيعته وشيعة أهل بيته عليهم السلام، وأن يسكن من أرض الله حيث أحب، وقد كان هارون أودع الفضل كتابا إلى يحيى إن امتنع عليه جستان فيه الأمان بأوثق ما يدخل تحت الإمكان، وبذل له من المال ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف – أي ثلاثة ملايين -، ومن القطائع ما أحب، وأن ينزله من البلاد ما شاء، وحيث شاء.
كتابه عليه السلام الى هارون الملقب بالرشيد
فكتب يحيى إلى هارون جواب كتابه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد فهمت كتابك وما عرضت علي من الأمان أن تبذل لي أموال المسلمين، وتقطعني ضياعهم التي جعلها الله لهم دوني ودونك، ولم يجعل لنا فيها نقيرا ولا فتيلا، فاستعظمت الإستماع له فضلا عن الركون إليه، واستوحشت منه تنزها عن قبوله، فاحبس عني أيها الإنسان مالك وإقطاعك، وقضاء حوائجي فقد أدبتني أدبا ناقصا – يعني أمه عليه السلام -، وولدتني عاقا، فوالله لو أن من قتل من أهل تركا وديالم على بعد أنسابهم مني وانقطاع رحمهم عني لوجبت علي نصرتهم والطلب بدمائهم، إذ كان منكم قتلهم ظلما وعدوانا، الله لكم بالمرصاد لما ارتكبتم من ذلك، وعلى الميعاد لما سبق فيه من قوله ووعيده، وكفى بالله جازيا ومعاقبا وناصرا لأوليائه، ومنتقما من أعدائه.
وكيف لا أطلب بدمائهم، وأنام على ثأرهم والمقتول بالجوع والعطش والنكال، وضيق المحابس وثقل الأغلال، وترادف الأثقال، أبي عبدالله بن الحسن النفس الزكية، والهمة السنية، والديانة المرضية، والخشية والبقية، شيخ الفواطم، وسيد أبناء هاشم طرا، وأرفع أهل عصره قدرا، وأكرم أهل بلاد الله فعلا، ثم يتلوه إخوته وبنو أبيه، ثم إخوتي وبنو عمومتي، نجوم السماء، وأوتاد الدنيا، وزينة الأرض، وأمان الخلق، ومعدن الحكمة، وينبوع العلم، وكهف المظلوم، ومأوى الملهوف، ما منهم أحد إلا من لو أقسم على الله لبر قسمه، فما أنس من الأشياء فلا أنسى مصارعهم، وما حل بهم من سوء مقدرتكم، ولؤم ظفركم، وعظيم إقدامكم، وقسوة قلوبكم، إذ جاوزتم قتلة من كفر بالله إفراطا، وعذاب من عاند الله إسرافا، ومثله من جحد بالله عتوا.
وكيف أنساه ما أذكره ليلا إلا أقض علي مضجعي، وأقلقني عن موضعي، ولا نهارا إلا أمر علي عيشي، وقصر علي نفسي، حتى وددت أني أجد السبيل إلى الاستعانة بالسباع عليكم، فضلا عن الناس، وآخذ منكم حق الله الذي وجب عليكم، وأنتصر من ظالمكم، وأشفي غليل صدر قد كثرت بلابله، وأسكن قلبا جم وساوسه من المؤمنين، وأذهب غيض قلوبهم ولو يوما واحدا، ثم يقضي الله في ما أحب.
وإن أعش فمدرك ثأري داعيا إلى الله سبحانه على سبيل رشاد أنا ومن اتبعني، نسلك قصد من سلف من آبائه وإخوتي وإخواني القائمين بالقسط، الدعاة إلى الحق، فإن أمت فعلى سنن ما ماتوا غير راهب لمصرعهم، ولا راغب عن مذهبهم، فلي بهم أسوة حسنة، وقدوة هادية، فأول قدوتي منهم أمير المؤمنين رضوان الله عليه، إذ كان ما زال قائما وقت القيام مع الإمكان حتما، والنهوض بمجاهدة الجبارين فرضا، فاعترض عليه من كان كالظلف من الخلف، ونازعه من كان كالظلمة مع الشمس، فوجدوا لعمر الله من حزب الشيطان مثل من وجدت، فظاهرهم من أعداء الله مثل من ظاهرك، وهم لمكان الحق عارفون، ولمواضع الرشد عالمون.
فباعوا عظيم أجر الآخرة بحقير عاجل الدنيا، ولذيذ الصدق بغليظ مرارة الإفك، ولو شاء أمير المؤمنين لهدأت له، وركنت إليه ؛ بمحاباة الظالمين، واتخاذ المضلين، وموالاة المارقين، ولكن أبى الله ورسوله أن يكون للخائنين متخذا، ولا للظالمين مواليا، ولم يكن أمره عندهم مشكلا، فبدلوا نعمة الله كفرا، واتخذوا آيات الله هزوا، وأنكروا كرامة الله، وجحدوا فضيلة الله لنا.
فقال رابعهم: أنى يكون له الخلافة والنبوة حسدا وبغيا، فقديما ما حسد النبيون وآل النبيين الذين اختصهم الله بمثل ما اختصنا، فأخذ عليهم تبارك وتعالى، فقال: ?أم يحسدون الناس على ما ءاتاهم الله من فضله فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما? [النساء:54].
فجمع الله لهم المكارم والفضائل، والكتاب والحكمة والنبوة، والملك العظيم، فلما أبوا إلا تماديا في الغي، وإصرارا على الضلال، جاهدهم أمير المؤمنين حتى لقي الله شهيدا رضوان الله عليه.
ثم تلاه الحسن سليل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشبيهه، وسيد شباب أهل الجنة، إذ كل أهلها سادة، فكيف بسيد السادة، فجاهد من كان أمير المؤمنين جاهده، حتى كان بالمدائن وثب عليه أخو أسد فوجاه في فخذه، فسقط لما به، وأيس الناس من إفاقته، فتبددوا شيعا، وتفرقوا قطعا.
فلما قصرت طاقته، وعجزت قوته، وخذله أعوانه، سالم هو وأخوه معذورين مظلومين موتورين، فاسثقل اللعين ابن اللعين حياتهما، واستطال مدتهما، فاحتال بالاغتيال لابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نال مراده، وظفر بقتله، فمضى مسموما شهيدا، مظلوما وقيذا، وعبر شقيقه وأخوه وابن أمه وأبيه وشريكه في فضله، ونظيره في سؤدده، على مثل ما انقرض عليه أبوه وأخوه، حتى إذا ظن أن قد أمكنته محبة الله من بوارهم، ونصرة الله من اجترامهم، دافعه عنها أبناء الدنيا، واستفرح بها أبناء الطلقاء، فبعدا للقوم الظالمين، وسحقا لمن آثر على سليل النبيين الخبيث ابن الخبيثين، فقتلوه ومنعوه ماء الفرات، وهو مبذول لسائر السباع، وأعطشوه وأعطشوا أهله وقتلوهم ظلما، يناشدونهم فلا يجابون، ويستعطفونهم فلا يرحمون، ثم تهادوا رأسه إلى يزيد الخمور والفجور تقربا إليه، فبعدا للقوم الظالمين.
ثم توجهت جماعة من أهل العلم والفضل إلى جستان في جيش، فتذاكروا ما حل بهم من ابن مروان، فخلعوه وبايعوا الحسن بن الحسن، ورأسوا عليهم ابن الأشعث إلى أن يأتيهم أمره، فكان رأسهم غير طائل ولا رشيد، نصب العداوة للحسن قبل موافاته، فتفرقت عند ذلك كلمتهم، وفل حدهم، فمزقوا كل ممزق، فلما هزم جيش الطواويس احتالوا بجدي الحسن بن الحسن، فمضى مسموما يتحسى الحسرة، ويتجرع الغيظ، رضوان الله عليه، حتى إذا ظهر الفساد في البر والبحر، شرى زيد بن علي لله نفسه، فما لبث أن قتل، ثم صلب، ثم حرق، فأكرم بمصرعه مصرعا.
ثم ما كان إلا طلوع ابنه يحيى عليه السلام ثائرا بخراسان، فقضى نحبه، وقد أعذرا رضوان الله عليهما، وقد كان أخي محمد بن عبدالله دعا بعد زيد وابنه عليهما السلام، فكان أول من أجابه وسارع إليه جدك محمد بن علي بن عبدالله بن عباس وإخوته وأولاده، فخرج بزعمه يقوم بدعوته حتى خدع بالدعاء إليه طوائف.
ومعلوم عند الأمة أنكم كنتم لنا تدعون، وإلينا ترجعون، وقد أخذ الله منكم ميثاقا لنا، وأخذنا عليكم ميثاقا لمهدينا محمد بن عبدالله النفس الزكية، الخائفة التقية المرضية، فنكثتم ذلك، وادعيتم من إرث الخلافة ما لم تكونوا تدعونه قديما ولا حديثا، ولا ادعاه أحد لكم من الأمة إلا تقولا كاذبا، فها أنتم الآن تبغون دين الله عوجا، وذرية رسول الله قتلا واجتياحا، فمتى ترجعون، وأنى تؤفكون، أو لم يكن لكم خاصة وللأمة عامة في محمد بن عبدالله فضل إذ لا فضل يعدل فضله في الناس، ولا زهد يشبه زهده في الناس، حتى ما يتراجع فيه اثنان، ولا يتراد فيه مؤمنان، ولقد أجمع عليه أهل الأمصار من أهل الفقه والعلم في كل البلاد لا يتخالجهم فيه الشك، ولا تقفهم عنه الظنون، فما ذكر عند خاصة ولا عامة إلا اعتقدوا محبته، وأوجبوا طاعته، وأقروا بفضله، وسارعوا إلى دعوته، إلا من كان من عتاة أهل الإلحاد، الذين غلبت عليهم الشقوة، وغمطوا النعمة، وتوقعوا النقمة من شيع أعداء الدين، وأفئدة المضلين، وجنود الضالين، وقادة الفاسقين، وأعوان الظالمين، وحزب الخائنين.
وقد كان الدعاء إليه منهم ظاهرا، ,الطلب له قاهرا بإعلان اسمه، وكتاب إمامته على أعلامكم (محمد يا منصور) يعرف ذلك ولا ينكر، ويسمع ولا يجهل، حتى صرفتموها إليكم وهي تخطب عليه، وكفحتموها عنه وهي مقبلة إليه، حين حضرتم وغاب، وشهدتم إبرامها وناء، رغبة ممن حضر، وعظيم جرأة ممن اعترض، حتى إذا حصلت لكم بدعوتنا، وهدأت عليكم بخطبتنا، وقرت لكم بسببنا، قالت لكم إجرامكم إلينا، وجنايتكم علينا: إنها لا توطأ لكم إلا بإبادة خضرائنا، ولا تطمئن لكم دون استئصالنا، فأغري بنا جدك المتفرعن فقتلنا لاحقا بأثره فينا عند المسلمين، لؤم مقدرة، وضراعة مملكه، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر قبل بلوغ شفاء قلبه من فنائنا، وهيهات أ، يدرك الناس ذلك، ولله فينا خبية لا بد من إظهارها، وإرادة لا بد من بلوغها.
فالويل لكم فكم من عين طالما غمضت عن محارم الله، وسهرت متهجدة لله، وبكت في ظلم الليل خوفا من الله، قد أسحها بالعبرات باكية، وسمرها بالمسامير المحماة، فألصقها بالجدران المرصوفة قائمة، وكم من غرة وجه طالما ناجى الله مجتهدا ، وعنى لله متخشعا مشوها بالعمد، مظلوما مقتولا ممثولا به معنوفا، وبالله أن لو لم يلق الله إلا بقتل النفس الزكية أخي محمد بن عبدالله رحمه الله تعالى للقيه بإثم عظيم، وخطب كبير، فكيف وقد قتل قبله النفس التقية – أي عبدالله بن الحسن – وإخوته وبنو أخيه، ومنعهم روح الحياة في مطابقه، وحال بينهم وبين خروج النفس في مطاميره، لا يعرفون الليل من النهار، ولا مواقيت الصلاة إلا بقراءة أجزاء القرآن تجزيه، لما غابوا في آناء الليل والنهار حتى الشتاء والصيف حال أوقات الصلاة، قرما منه إلى قتلهم، وقطعا منه لأرحامهم، وترة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم.
فولغ في دمائهم ولغان الكلاب، وضرى بقتلهم صغيرهم وكبيرهم ضرواة الذئاب، ونهم بهم نهم الخنزير، والله له ولمن عمل بعمله بالمرصاد، فلما أهلكه الله قابلتنا أنت وأخوك الجبار الفض الغليظ العنيد، بأضعاف فتنته، واحتذاء سيرته، قتلا وعذابا وتشريدا وتطريدا، فأكلتمانا أكل الربا حتى لفظتنا الأرض خوفا منكما، وتأبدنا بالفلوات هربا عنكما، فأنست بنا الوحوش وأنسنا بها، وألفتنا البهائم وألفناها، فلو لم تجترم أنت وأخوك إلا قتل الحسين بن علي وأسرته بفخ لكفى بذلك عند الله وزرا عظيما، وستعلم وقد علم ما اقترف والله مجازيه وهو المنتقم لأوليائه من أعدائه.
ثم امتحننا الله بك من بعده، فحرصت على قتلنا، وظلمت الأول والآخر منا، لا يؤمنهم بعد دار، ولانأي جار، تتبعهم حيلك وكيدك حيث تستروا، من بلاد الترك والديلم، لا تسكن نفسك ولا يطمئن قلبك دون أن تأتي على آخرنا، ولا تدع صغيرنا، ولا ترثى لكبيرنا، لئلا يبقى داع إلى حق، ولا قائل بصدق من أهله، حتى أخرجك الطغيان، وحملك الشنآن، على أن أظهرت بغضة أمير المؤمنين، وأعلنت بنقصه، وقربت مبغضيه، وآويت شانئيه، حتى أربيت على بني أمية في عداوته، وأشفيت غلتهم في تناوله، وأمرت بكرب قبر الحسين بن علي صلوات الله عليهما، وتعمية موضعه، وقتل زواره، واستئصال محبيه، وأوعدت زائريه، وأرعدت وأبرقت على ذكره.
فوالله لقد كان بنو أمية الذين وضعنا آثارهم مثلا لكم، وعددنا مساوئهم احتجاجا عليكم – على بعد أرحامهم – أرأف بنا، وأعطف علينا قلوبا من جميعكم، وأحسن استبقاءا لنا ورعاية من قرابتكم، فوالله ما بأمركم خفاء، ولا بشنآنكم امتراء، ولم لا تجاهد وأنت معتكف على معاصي الله صباحا ومساء، مغترا بالمهلة، آمنا من النقمة، واثقا بالسلامة، تارة تغري بين البهائم بمناطحة كبش ومناقرة ديك ومحارشة كلب.
وتارة تفترش الخصيان، وتأتي الذكران، وتترك الصلوات صاحيا وسكران، لا يشغلك ذلك عن قتل أولياء الله، وانتهاك محارم الله، فسبحان الله ما أعظم حلمه، وأكثر أناته عنك وعن أمثالك، ولكنه تبارك وتعالى لا يعجل بالعقوبة، وكيف يعجل وهو لا يخاف الفوت، وهو شديد العقاب.
فأما ما دعوتني إليه من الأمان، وبذلت لي من الأموال، فمثلي لا تثني الرغائب عزمته، ولا تنحل لخطير همته، ولا يبطل سعيا باقيا مع الأيام أثره، ولا يترك جزيلا عند الله أجره بمال فان وعار باق، هذه صفقة خاسرة، وتجارة بائرة، استعصم الله منها، وأسأله أن يعيذني من مثلها بمنه وطوله.
أفأبيع المسلمين وقد سمت إلي أبصارهم، أفأبيع خطيري بمالكم، وشرف موقفي بدراهمكم، وألبس العار والشنار بمقامكم، لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين.
والله ما أكلي إلا الجشب، ولا لبسي إلا الخشن، ولا شعاري إلا الدرع، ولا صاحبي إلا السيف، ولا فراشي إلا الأرض، ولا شهوتي من الدنيا إلا لقاؤكم، والرغبة في مجاهدتكم ولو موقفا واحدا، انتظار إحدى الحسنيين في ذلك كله في ظفر أو شهادة.
وبعد، فإن لنا على الله وعدا لا يخلفه، وحتما سوف ينجزه حيث يقول: ?وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا? [النور:55].
وهو الذي يقول عز قائلا: ?ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين? [القصص:5].
إحتيال هارون
فلما ورد جوابه أثنى وساده، ومنعه رقاده، وظن أن مدتهم قد قرب انقضائها، فشاور أهل الرأي والوزراء والعمال، وفقهاء السوء، وقضاة الجور، فاستبهم عليهم باب الخطب، وعظم الوجل، وتناهى الكرب، فقال أبو البختري وهب بن وهب لعنه الله، وكان من قضاته، بل جعله قاضي القضاة: يا أمير المؤمنين علي أحتال لك حتى يسلم يحيى من جستان، قال: وكيف ويلك تعمل؟
قال: اجمع من وجوه أهل قزوين وزنجان، والري وأبهر وهمذان، وعلمائها من قدرت، ويشهدون عند جستان أني قاضي القضاة، وأشهد أن يحيى لك عبد.
فقال سليمان بن فليح – وكان على ديوان الخراج -: وأنا أسير معه يا أمير المؤمنين، فيشهدون عنده أني صاحب ديوان خراج الأرض، ثم أشهد عنه أنه عبد لك.
قال أبو البحتري: ويأمرنا أمير المؤمنين بمن لم يشهد لنا ومعنا فنضرب عنقه ونصطفي ماله، فإنه أمير المؤمنين إذا فعل ذلك بهم شهدوا جميعا على جستان، ورده إلى ما يحب أمير المؤمنين، ويشهدون هم بمثل ذلك تقوية للخلافة، فسرى عند سماعه هذه الحيلة غمه، وانجلى كربه وهمه، وأمر لأبي البختري بثلاثمائة ألف درهم، وأمر لسليمان بن فليح بمائة ألف درهم، ووجه من فوره إلى الفضل بن يحيى، وأمر أن من امتنع من الشهادة ممن قد ذكره ضرب عنقه، واصطفى ماله، ومن شهد أكرم وأسقط عنه الخراج.
فجمع من العلماء من أهل الجهات التي ذكرناها، والنواحي التي سميناها ممن يعرفهم جستان ألف وثلاثمائة، فشهدوا له بأن أبا البختري قاضي القضاة، وشهد لجستان بأن يحيى عليه السلام عبد لهارون، وليس بابن بنت النبي عليه الصلاة والسلام وعلى آله.
وقد كان الفضل عرف بأن امرأة جستان غالبة عليه، فطمع فيه من جهتها، فأنفذ إليها من الألطاف والجواهر والطيب والثياب، حتى أرضاها وغلبت عليه، وأشارت على جستان بتسليمه إليهم، فلما اجتمع هذان السببان، قال جستان ليحيى عليه السلام: يا يحيى ما وجدت أحدا تخدعه بدعوتك غيري، فقال له (ع): أيها الرجل إن لك عقلا فاجعله حكما دون هواك، ولو أني كنت كما قالوا، ما وجهوا إليك بهذا المال، ولا وجهوا هذا الجند العظيم، وأنفقوا المال الجسيم ؛ لأجل عبد هرب، ولا جمعوا من وجوه هذه الأمصار من ترى ليشهدوا عندك بالزور، فابعث من تثق به يسأل عني في هذه الأمصار وفي غيرها.
إلى قوله: فاجمع بيني وبينهم، فقال: أفعل هذا، فلما اجتمعوا عليه قام، فقال: الحمد لله على ما أولانا من نعمه، وأبلانا من محنه، وأكرمنا بولادة نبيه، نحمده على جزيل ما أولى، وجميل ما ابتلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، انتخبه واصطفاه، واختاره واجتباه، صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين، أما بعد: معاشر العرب فإنكم كنتم من الدنيا بشر دار، وظنك قرار.
إلى قوله: الأعاجم لكم قاهرة، وجنودهم عليكم ظاهرة..إلى قوله: لا تحلون حلالا، ولا تحرمون حراما، ولا تخافون أثاما، قد ران الباطل على قلوبكم فلا تعقلون، وغطت الحيرة على أبصاركم فما تبصرون.
إلى قوله: فبعث فيكم محمدا صلى الله عليه وآله وسلم منكم خاصة، وأرسله للناس كافة، وجعله بين أظهركم ليميز به بينكم، وهو تعالى أعلم بكم منكم، فاستنقذكم من ظلمة الظلال إلى نور الهدى.
إلى قوله: وسن لكم السنن، وشرع لكم الشرائع، خافضا في ذلك جناحه، يشاوركم في أمره، ويواسيكم بنفسه، ولم يبغ منكم على ما جاء به أجرا إلا أن تودوه في قرباه، وما فعل صلى الله عليه وآله وسلم ذلك حتى أنزل الله فيه قرآنا، فقال تبارك وتعالى: ?قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى? [الشورى:23].
فلما بلغ رسالة ربه، وأنجز له ما وعده من طاعة العباد، والتمكن في البلاد، دعي صلى الله عليه وآله وسلم فأجاب، فصار إلى جوار ربه وكرامته، وقدم على البهجة والسرور، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فوعده الشفاعة عنده، والمقام المحمود لديه، فخلف بين أظهركم ذريته، فأخرتموهم وقدمتم غيرهم، ووليتم أموركم سواهم، ثم لم نلبث قليلا حتى جعل مال ولده حوزا، وظلمت ابنته فدفنت ليلا، وقتل فيكم وصيه وأخوه وابن عمه وزوج ابنته.
ثم خذل وجرح وسم سبطه الأكبر أبو محمد، ثم قتل سبطه الأصغر أبو عبدالله مع ثمانية عشر من أهل بيته الأدنين في مقام واحد، ثم على أثر ذلك نبش وأحرق بالنار ولد ولده، ثم هم بعد ذلك يقتلون ويطردون ويشردون في البلاد إلى هذه الغاية، قتل كبارهم، وأيتم صغارهم، وأرملت نساءهم، سبحان الله ما لقي عدو من عدوه ما لقي أهل بيت نبيكم منكم من القتل والخوف والصلب، وليس فيكم من يغضب لهم إلا هزؤا بالقول، وإن زعمتم وقمتم معهم كي تنصروهم لم تلبثوا إلا يسيرا حتى تخذلوهم وتفرقوا عنهم.
إلى قوله: تفخرون على العجم، وتصولون على سائر الأمم، وقد عاقدتموه وعاهدتموه أن تمنعوه وذريته مما تمنعون منه أنفسكم وذراريكم فسوءة لكم ثم سوءة بأي وجه تلقونه غدا، وبأي عذر تعتذرون إليه.
إلى قوله: فلو فعلت السماء ما فعلتم لتطأطأت إذلالا، والجبال لصارت دكا، والأرض لمارت مورا، إني لأعجب من أحدكم يقتل نفسه في معصية الله ولا ينهزم يقول بزعمه: لا تتحدث نساء العرب بأني فررت، وقد تحدثت نساء العرب بأنكم خفرتم أمانتكم، ونقضتم عهودكم، ونكصتم على أعقابكم، وفررتم بأجمعكم عن أهل بيت نبيكم، فلا أنتم تنصرونهم للديانة، وما افترض الله عليكم، ولا من طريق العصبية والحمية، ولا بقرب جوارهم وتلاصق دارهم منكم، ولا أنتم تعتزلونهم فلا تنصرونهم ولا تنصرون عليهم عدوهم، بل صيرتموهم لحمة لسيوفكم، ونهزا لشفاء غيظكم، من قتلهم واستئصالهم، وطلبهم في مظانهم ودارهم، وفي غير دارهم، فصرنا طريدة لكم من دار إلى دار، ومن جبل إلى جبل، ومن شاهق إلى شاهق.
ثم لم ينفعكم ذلك حتى أخرجتمونا من دار الإسلام إلى دار الشرك، ثم لم ترضوا بذلك من حالنا حتى تداعيتم علينا معشر العرب خاصة من دون العجم من جميع الأمصار والمدائن والبلدان، فخرجتم إلى دار الشرك تلذذا منكم بقتلنا، وتقربا إلى ربكم باجتياحنا، زعمتم أن لا يبقى بين أظهركم من ذرية نبيكم عين تطرف، ولا نفس تعرف، ثم لم يقم بذلك إلا أعلامكم ووجوهكم وعلماؤكم وفقهاؤكم، والله المستعان.
إلى قوله: فلما سمعنا كلامه وخطبته بكينا حتى كادت أنفسنا أن تخرج، قال: فقمنا وتشاورنا، فقلنا: هل بقي لكم حجة أو علة لو قتلتم عن آخركم، وسبيت ذراريكم، واصطفيت أموالكم كان خيرا لكم من أن تشهدوا على ابن نبيكم بالعبودية، وتنفوه عن نسبه، قال: فعزمنا ألا نشهد.
قال: فقال أبو البختري: إن هذا يحيى قد دخل الديلم..إلى قوله: وقد جازت الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب.
إلى قوله: والله لئن امتنعتم من الشهادة عليه لتقتلن عن آخركم، ولتسبين ذراريكم، ولتأخذن أموالكم، فتقدموا فشهدوا بأجمعهم.
إلى قول الإمام يحيى عليه السلام لجستان: فإن أبيت إلا غدرا فانتظرني آخذ لي ولأصحابي الأمان على نسخة أنسخها، وأوجه بها إلى هارون حتى أكتب إقراره، وجميع الفقهاء والمعدلين من بني هاشم، فقبل، فكتب إلى الفضل بذلك، وكتب الفضل إلى الرشيد، فامتلأ الرشيد سرورا وفرحا، وعظم موقع ذلك عنده، وأجاب إلى العقد ليحيى.
وأشهد على نفسه من ذكره يحيى عليه السلام من العلماء والهاشميين، منهم: عبد الصمد بن علي، والعباس بن محمد، وأخوه إبراهيم، وموسى بن عيسى.
أمان هارون للإمام يحيى عليه السلام
وهذه نسخة الأمان:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمان..إلى قوله: ليحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ولسبعين رجلا من أصحابه، أني آمنتك يا يحيى والسبعين رجلا من أصحابك بأمان الله الذي لا إله إلا هو الذي يعلم من أسرار العباد ما يعلم من علانيتهم، أمانا صحيحا جائزا صادقا، ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، لا يشوبه غل، ولا يخالطه غش يتعلله بوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب.
إلى قوله: أعطى يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب والسبعين رجلا من أصحابه عهدا خالصا مؤكدا، وميثاقا واجبا غليظا، وذمة الله وذمة رسوله، وذمة أنبيائه المرسلين، وملائكته المقربين، وأنه جعل له هذه المواثيق والذمم، ولأصحابه في عقدة مؤكدة صحيحة، لا براءة له في دنياه وآخرته إلا بالوفاء بها.
إلى قوله: فإن نقض ما جعل لك ولأصحابك من أمانهم هذا، أو خالفه إلى أمر تكرهه، أو أضمر لك في نفسه غير ما أظهر، أو أدخل عليك فيما ذكرت من أمانه لك ولأصحابك التماس الخديعة لك أو المكر بك، أو نوى غير ما جعل لك الوفاء به، فلا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، وزبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر طالق منه ثلاثا بتة.
وأن كل مملوك له من عبد أو أمة وسرية وأمهات أولاد أحرار، وكل امرأة يتزوجها فيما يستقبل فهي طالق، وكل مملوك يملكه فيما يستقبل من ذكر أو أنثى فهم أحرار، وكل مال يملكه أو يستفيده فهو صدقة على الفقراء والمساكين، وإلا فعليه المشي إلى بيت الله الحرام حافيا راجلا، وعليه المحرجات من الأيمان كلها، وأمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله خليع من إمرة المؤمنين والأمة من ولايته براء ولا طاعة له في أعناقهم، والله عليه بما أكد، وجعل على نفسه في هذا الأمان كفيل، وكفى بالله شهيدا.
خذلان جستان للإمام يحيى عليه السلام
وأتى كتاب هارون وخطه بيده، فقال يحيى لجستان: هل بقي شك؟ قال: أرى أن تصالح ابن عمك، قال: قد فعلت، فلما انفصل يحيى عليه السلام من ملك الديلم جستان تلقاه الفضل بن يحيى وترجل له وقبل ركابه، وذلك بمرأى من جستان فندم جستان وحينئذ أخذ ينتف لحيته، ويحثو التراب على رأسه تلهفا وتحسرا، وعلم أنه قد خدع وضيع.
إلى قوله: فوثب عليه بنو عمه، وقتلوه، وملكوا سواه من أهل بيت المملكة، وخسر الدنيا والآخرة.
قدومه الى بغداد عليه السلام
إلى قوله: فقدم يحيى بن عبدالله عليه السلام مع الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير أربعمائة ألف دينار، وأجرى له رواتب سنية، وأنزله منزلا سنيا بعد أن أقام في منزل يحيى بن خالد أياما، وكان يتولى أمره بنفسه تعظيما له.
إلى قوله: وكان من التابعين له محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وهو أحد دعاته وإخوانه، وسادات أعوانه، وابن عورك الليثي، وابن سهل، وبشر بن المعتمر، والفقيهان محمد بن عامر، ومخول بن إبراهيم، والحسن بن الحسن، وإبراهيم بن إسحاق، والحسن بن الحسين بن إسحاق، وسليمان بن جرير، وعبد العزيز بن يحيى الكناني، وقليب بن إسماعيل، وسعيد بن خثيم الهلالي، ويونس البجلي، وحبيب بن ارطأة، وعدة كثير لا يمكن حصرها في هذا الكتاب من: فقهاء المدائن، وعلماء الأمصار.
فلما كان من يحيى في بغداد ما كان استأذن هارون في النهوض إلى المدينة، فأذن له فوصل إلى المدينة على ساكنها السلام، فقضى ديون الإمام الحسين الفخي ووصل فقراء آل أبي طالب عليهم السلام وأشياعهم وعامة المسلمين، ووصل أرحاما وأعطى عطايا أغنت أربابها، وكان الفضل بن يحيى وأبوه يحيى قد وصلوه بأموال جمة أيضا، ولم يدخر من ذلك المال شيئا.
وكان الزبيري عبدالله بن مصعب قد كسد سوقه عندهم فأراد النفاق بالكذب والسعاية، فسعى بيحيى بن عبدالله إلى هارون وكتب إليه: أنا كنا نظن أن ليس في الإسلام إلا خليفة واحدة، ثم الآن قد صار عندنا في المدينة خليفة يقصد من الآفاق، ومن هذا وما شاكله فانتهى الحال إلى أن أزعجه هارون من المدينة إلى بغداد، وحضر الزبيري وجرى بينهم مناظرات جمة.
إلى قوله: وإنما نذكر منه مقاما واحدا: ذكر محمد بن جرير في تاريخه: أن الزبيري دخل ذات يوم على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين إني والله خفت عليك امرأتك وبنتك وجاريتك التي تنام معك وخادمك الذي يخدمك ويناولك ثيابك، وأخص خلق الله بك من قوادك وأبعدهم منك، قال: فتغير لونه، وقال: مماذا؟
قال: قد جاءتني دعوة يحيى، فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينه حتى لم يبق أحد خلف بابك إلا وقد أدخله في الخلاف عليك، قال: وتقول هذا في وجهه؟ قال: نعم.
قال الرشيد للفضل: أدخل يحيى، فدخل فأعاد القول الذي قاله، فقال يحيى لهارون: لقد جاء بقول لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو أكبر مني لما أفلت، ولكني أباهله.
قال: فافعل، فقام يحيى، فصلى ركعتين، وقال هارون للزبيري، قم فصل ركعتين، فقام فصلى ركعتين، ثم برك يحيى، ثم قال: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه، ثم قال: (اللهم إن كنت تعلم أني دعوت عبدالله بن مصعب على هذا – يعني الرشيد ووضع يده عليه وأشار إليه – فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوتي، وإلا فكله إلى حوله وقوته، وأسحته بعذاب من عندك يا رب العالمين، فقال عبدالله: آمين يا رب العالمين).
قال يحيى بن عبدالله لعبدالله بن مصعب: قل كما قلت، فقال: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بن عبدالله لم يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك، وإلا فكله إلى حوله وقوته واسحته بعذاب من عندك آمين يا رب العالمين.
وعلى اختلاف الروايات أن الزبيري لم يلبث بعد تحليف يحيى عليه السلام له ومباهلته إياه أكثر من ثلاثة أيام منهم من قال: مات من يومه، ومنهم من قال: ثانيه، والأكثر: ثالثه.
نقض هارون للأمان
ولما جمع هارون القضاة والفقهاء وأمرهم بالنظر في كتاب أمان يحيى، وهل إلى نقضه سبيل بحيلة من الحيل، ووجه من الوجوه كان فيهم محمد بن الحسن، فنظر فيه، فلما أتقنه قام قائما، وقال: هذا أمان لا سبيل إلى نقضه، ولو ألجئت أن أكتب مثله لما أحسنت، فمن نقضه فعليه لعنة الله، فحذفه هارون بدواة فشجه شجة خفيفة.
قال الحسن بن زياد: هو أمان – بصوت ضعيف -، وصححه الفقهاء كافة ؛ فقال أبو البختري – لعنه الله -: هذا منتقض – تقربا منه إلى هارون الغوي، وإيثار الدنيا على الآخرة -، فقال: أنت قاضي القضاة، وأنت أعلم بذلك، فإن كان منتقضا فمزقه، فقال لمسرور: مزقه يا أبا هاشم، فقال: لا والله مزقه أنت، فمزقه ويده ترتعش، وكان الزبيري حاضرا، فقال: شققت العصى يا يحيى وخالفت وفرقت جماعتنا، وأردت العظيم بخليفتنا، فقال يحيى: من أنتم رحمكم الله إنما الناس نحن وهؤلاء، وأنت عدو الجميع، فلما لم تقدر علينا طلبت التشفي من بعضنا ببعض، قال: فما تمالك هارون أن ضحك ضحكا شديدا، وقام يحيى إلى الحبس.
إلى قوله: وكان يقال: لو ادعى أحد لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوة لأمكن أهل يحيى ادعاؤها لما ظهر في أمره من الآيات في شيء بعد شيء مدة حبسه، وقد كان هارون يفرج عنه ثم ينكص فيعيده، وقد أخرجه مرة من الحبس وأعطاه مائة ألف دينار، واعتذر إليه، ثم رده، والخلاف في أمره واقع مع الإجماع على هلاكه في السجن بأي سبب كان ذلك، أبسم أم بالجوع أم خنقوه، أم بنوا عليه، أم كيف كانت القضية، أم دفن حيا في الأرض، والله المنتصف له من ظالمه، وقد كان كتب رقعة وسلمها إلى يحيى بن خالد، وقال: يا أبا الفضل إن لصاحبك فينا إرادة فإذا أمضاها فأعطه هذه الرقعة، وكان فيها: (يا هارون إن المستعدي قد تقدم، والخصم على الأثر، والحاكم لا يحتاج إلى بينة)، فلما ظهر موت يحيى أعطاه الكتاب، قال: فما منعك أن تعطيني إياه في حياته، قال: كان عهد إلي بهذا المشتكي.
وقال في كتاب أخبار فخ لأحمد بن سهل الرازي رضي الله عنه ص232 الطبعة الولى عام 1995م: أخبرني محمد بن القاسم بن إبراهيم رحمه الله عن أبيه، قال: لما بعث يحيى بالأمان كتب إلى هارون أن يجمع الفقهاء والعلماء، ويحلف له بطلاق زبيدة باسمها واسم أبيها وعتق من السراري، وتسبيل كل ما يملك من مال، والمشي إلى بيت الله الحرام، والأيمان المحرجات، وأن يشهد الفقهاء على ذلك كله، قال: فأسرع هارون إلى أمانه، وأعطاه الشروط التي اشترطها كلها، والأيمان التي طلب، والأشهاد.
إلى قوله: وأخبرني موسى بن عبدالله عن بعض أهله، قال: رجلان من أفضل أهل زمانهما، وأفضل أهل عصرهما، أحدهما من ولد الحسن، والآخر من ولد الحسين لا يوقف على موتهما، ولا على قتلهما كيف كان: موسى بن جعفر، ويحيى بن عبدالله.
قال المدائني عمن أخبره: دفع هارون يحيى إلى جلاد يقال له: أسلم أبو المهاصر، فحبسه عنده، قال: وكان الرشيد يركب حمارا ويدور في القصر فيسأل أسلم عن خبره فيخبره، فقال له يوما أنه يطبخ قدرا في كل يوم بيده ووصف له صفتها، فقال الرشيد.
..إلى قوله: فاذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: أطعمنا من قدرك، قال: فأتاه فقال له، فأخذ قصعة له من خشب فغسل داخلها ثم غرف أكثر القدر وبعث به إليه، فلما جاءه به أمر أن يؤتى بخبز وأكل به حتى بقيت قطعة بصل في جنب القصعة، فأتبعها بلقمة حتى أخذها، ثم دعا مسرورا الكبير، فقال: احمل إلى يحيى ألف خلعة من كل فن سري من الثياب الفاخرة، مع ألف خادم فاره كل خلعة ثلاثة أثواب، وانشرها كلها عليه، وعرفه أثمانها، ومن أهداها لنا، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين، جعلناها مكافأة لك على ما أطعمتنا حتى تأتي على آخرها.
قال: فأتاه مسرور بالخلع والخدم، وأبلغه الرسالة، وهو مطرق ما ينطق ولا ينظر، قال: وأحس يحيى بالشر منه لما أتاه بذلك، وأيقن أنه معذب مقتول، قال: فرفع رأسه، فقال: قل لأمير المؤمنين، إنما ينتفع بهذا من له في الحياة طمع ونصيب، ومن كان آمنا على نفسه راجيا لبقائه، فأما المحبوس المقهور الخائف المأسور، المرتهن بسعايا البغاة بغير ما جنت يداه، فاتق الله يا أمير المؤمنين ولا تسفك دمي، واحفظ رحمي وقرابتي فإني في شغل عما وجهت به إلي.
قال مسرور: فرققت له، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: لا ولا كرامة لا أقول لأمير المؤمنين من هذا شيئا، فقال يحيى: هذا من ذاك الذي أتخوفه وأشفق منه.
وعاد مسرور إلى الرشيد فأخبره بكل ما قال، قال: فقال له: فما قلت له: فأخبره بما قال، قال: أصبت، وأمره أن يرجع إليه ويقول له: يقول لك أمير المؤمنين، إن أحببت أن أطلق عنك فأخبرني بأسماء السبعين الذين أخذت لهم الأمان لأعلم أنك بريء مما سعي إلي فيك، فإنك إن فعلت أخرجتك من حبسي، وأجزتك بألف ألف دينار، وأقطعتك من القطائع، وأعطيت أصحابك من الأموال كذا وكذا، وأنزلتهم من البلاد حيث شاءوا.
قال مسرور: فلما قلت له ذلك، قال: قل له: يا أمير المؤمنين، أله عن ذكر أولئك، فإنك لو قطعتني إربا إربا لم يرني الله أشاركك في دمائهم، ولو أعطيتني جميع ما في الأرض ما أنبأتك باسم واحد منهم، فاصنع ما بدا لك، فإن الله بالمرصاد.
إلى قوله: قال أسلم: فجئت إلى محبسي فأخرجت يحيى منه وجعلته في بيت دونه ثلاثة أبواب، وأغلقت الباب الأول والثاني والثالث.
إلى قوله: فلما كان بعد سبعة أيام أتيته والموكلون بالباب فدخلت عليه، وأغلقت الباب من داخل فإذا هو يصلي، فاشتد تعجبي، وقعدت بحذاه، وقلت: بهذه الخلقة أردت الخلافة، وبهذا الوجه أردت الخروج على أمير المؤمنين – وكان يحيى خفيف اللحية – وهو مقبل على صلاته ما يلتفت إلي، فما زلت أعرض به وهو مقبل على صلاته ما يلتفت إلي حتى شتمته.
إلى قوله: فأسرع في صلاته وأوجز فيها، ثم وثب إلي وثوب أسد فقعد على صدري، وقبض على حلقي وعصره حتى ظننت أنه قد قتلني، ثم أرسلني حتى استرحت، ثم قبض على حلقي حتى فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: لولا أنه ليس في قتلك درك لقتلتك، ثم قال: ويلك من شتمت أفاطمة بنت محمد أم فاطمة بنت أسد أم فاطمة بنت الحسين، أم زينب بنت أبي سلمة، ثم خلاني فخرجت هاربا، وفتحت الأبواب، وقلت للبوابين ادخلوا فليس هذه قوة من لم يأكل سبعة أيام شيئا ففتشوا البيت.
قال: وأخبرني أبو هاشم إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن علي بن حسن بن عبدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب عن حمزة بن القاسم عن أبيه عن إبراهيم، قال: تذاكرنا يوما عند عمر بن فرج الراجحي أمر يحيى بن عبدالله، فقال عمر بن فرج: حدثني مسرور الخادم، قال: أتي بيحيى وهارون بالرافقة وعنده عبدالله بن مصعب الزبيري، فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين إن هذا وأخويه قد أفسدوا علينا مدينتنا، فقال له يحيى: ومن أنت عافاك الله، فجرى بينهما من الحديث ما كتبناه حتى أنشد يحيى هارون الشعرين اللذين قالهما الزبيري في محد رحمه الله، فاسود وجه الزبيري، وتغير وانتفى أن يكون قال من هذا شيئا، فقال يحيى يا أمير المؤمنين إن كان صادقا فليحلف بما أحلفه، فأمر هارون أن يحلف، فقال له: قل: برأني الله من حوله وقوته، ووكلني إلى حولي وقوتي إن كنت قلت هاتين القصيدتين.
قال: ليس هذه من الأيمان، أنا أحلف بالله الذي لا إله إلا هو وهو يحلفني بشيء ما أدري ما هو، فأمره الرشيد أن يحلف، فما أتى عليه إلا ثلاث حتى مات، فأمر الرشيد أن يدفن فدفن فانخسف القبر، ثم بنوا ثانية فانخسف القبر، ثم بنوا ثالثة فانخسف القبر، فأمرهم هارون أن تضرب عليه خيمة، فما زالت مضروبة على قبره.
وأما هارون الوشاء فقال: حدثني عبد العزيز بن يحيى الكناني، قال: جمع هارون الفقهاء، فكان فيمن حضر وأحضر من القرشيين جماعة من ولد أبي بكر وعمر وعثمان والزبير وأبو البختري، وأحضر أمان يحيى، فدفع هارون الأمان إلى محمد بن الحسن، ويحيى في الحديد، فقال: يا محمد انظر في هذا الأمان هل هو صحيح أم هل في نقضه حيلة، فقراه، ثم قام قائما، فقال: يا أمير المؤمنين أمان صحيح ما رأيت أمانا قط أصح منه، ولا ظننت أنه ما بقي في الدنيا رجل يحين أن يكتب مثل هذا، ولو كلفت أن أكتب مثله ما أحسنت.
قال: فغضب الرشيد حتى انتفخت أوداجه، وانقطعت ازراره، وأخذ داوة بين يديه فضرب بها رأس محمد فشجه، فذكر القصة.
ثم قال آخر: ذلك دفعه إلى الفضل بن يحيى، ولم يقل أن أبا البختري قال: فيه حيلة، ولكن لما رأى أبو البختري هارون قد غضب، قال: ردوا علي الأمان بعدما كان قد نظر فيه وصححه، فردوه عليه فوضع يده على حرف، فقال: هذا آخره ينقض أوله اقتله ودمه في عنقي، فقال له يحيى: يا مقلوط، والله لقد علمت قريش أنه مالك أب يعرف، فلو استحييت من شيء لاستحييت من ادعائك إلى من ليس بينك وبينه رحم مع أن من تدعى إليه عبد لبني زمعة، ثم قال: يا هارون اتق الله فإنه لا ينفعك هذا ولا ضرباؤه يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، فقال هارون: انظروا لا يستحل أن يقول: يا أمير المؤمنين، هذا ينتقض ما أعطيته من الأمان، قال يحيى: ما جزعك من اسم سماكه أبواك، قد كان يقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد، فما ينكره، وهو رسول رب العالمين.
قال: فدفعه إلى يحيى بن خالد بن برمك، وخرجنا من عنده، فبكى محمد بن الحسن، فقلنا له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف العقوبة من الله، قلنا: أليس قد أعذرت حتى خفنا عليك أن يأمر بقتلك؟ قال: كان يجب علي أن أرد على أبي البحتري ما ادعى من ذلك الحرف ينقضه، وقد كذب في ذلك، قالوا: لو تكلمت لأمر بقتلك، فلم يزل محمد في قلبه شيء من ذلك حتى مات.
قال المكي: فأخبرني الثقة أن جعفر بن يحيى حبس يحيى بن عبدالله مدة عنده حتى سأله هارون عنه، فأخبره بسلامته، فقال هارون: ما أطول حياته، فعلم جعفر أنه يريد أن يقتله، فأخرجه ليقتله، فجعل جعفر يقول: وا أسفاه كيف ابتليت قتل يحيى من بين الخلق، فقال له يحيى بن عبدالله: اسمع مني أصلحك الله شيئا يكون لك فيه السلامة في الدنيا والآخرة، أعطيك من العهود والمواثيق ما تسكن إليه نفسك أنك تركتني خرجت حتى أدخل بلاد العجم والروم.
إلى قوله: فإن رأيت وفقك الله أن لا تعجل وتنظر فيما سألتك وتعرضه على قلبك فإنك إن كنت محتاجا إلى رضى هارون، فإنك محتاج إلى رضى الرحمن، فانظر لنفسك قبل يوم الحسرة والندامة..إلى قوله: واحذر أن تلقى الله بدمي.
إلى قوله: ووقع كلامه في قلبه فلما كان في الليل أرسل رسله إلى يحيى، فقال: إن كلامك قد وقع في قلبي، وإن قبلي للناس مظالم، وإن لي من المظالم الكبار والذنوب العظام الموبقات ما لا أطمع في النجاة معها والمغفرة.
فقال له يحيى: لا تفعل فإنه لا ذنب أعظم من الشرك، وقد قال الله في محكم التنزيل للمشركين الذين أسرفوا في الشرك وفي معاداة النبي وقتل أصحابه: ?ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له? [الزمر:53]، فأمرهم بالإنابة والتوبة، والله تبارك وتعالى يغفر لمن تاب، وإن عظم جرمه.
قال: فتضمن لي المغفرة، إن أنا خليتك، قال له يحيى: نعم أضمن على شريطة، قال له جعفر: وما هي؟ قال: تتوب من كل ذنب أذنبته بينك وبين الله ثم لا تعود في ذنب أبدا، وأما الذنوب التي بينك وبين الناس فكل مظلوم ظلمته ترد ظلامته عليه، فإنك إذا فعلت ذلك وأديت الفرائض التي لله عليك غفر الله لك، وأنا الضامن لك ذلك.
قال: فعزم جعفر على تخليته، وأخذ على يحيى العهود والمواثيق بأن يمضي من فوره ذلك حتى يدخل إلى بلاد الروم.
إلى قوله: وكتب له جعفر بن يحيى منشورا أن لا يعرض له، وأن يحتال هو بالدخول إلى بلاد الروم سرا وحده لأمر مهم وينفذ من يومه إذا وصل الشالية، وأخرجه ليلا.
قال: وكان عم جعفر بن محمد بن خالد بن برمك عاملا على ثغور الروم، فمر يحيى من فوره حتى أتى ثغر المصيصة، فأخذا بها، وأتي به إلى محمد بن خالد بن برمك، فلما نظر إليه وتأمله، قال: أنت يحيى بن عبدالله، فأنكر ذلك، فتهدده وضربه، فأنكر وأخفى خبره، وقال: هذا يحيى دفعه هارون إلى جعفر ليقتله، فأطلقه، وإن بلغ هارون إطلاقه كان فيه هلاك آل برمك، فخرج به إلى هارون يطوي المننازل حتى وافاه بمكة، فدخلها ليلا ومعه سبعة أبعرة، فمضى حتى صار إلى دار الفضل بن الربيع، فاستأذن عليه من ليله، فقال له الفضل: تركت عملك وجئت، فقال: إن الأمر الذي جئت له أعظم من أن أذكر معه عملا، قال: ما هو؟ قال: هذا يحيى بن عبدالله معي.
فقال له الفضل: قد مات يحيى فقال: هذا يحيى معي، وكان الفضل عدوا للبرامكة، فقال محمد بن خالد بن برمك: اعلم يا أمير المؤمنين بمكاني، وانظر لا يعلم به أحد فإنه إن علم بي جعفر خفت أن يغتالني، قال: فأخبر الفضل هارون بأمر يحيى.
قال: فأقلقه ذلك، فوجه إلى هرثمة فأحضر وإلى محمد بن خالد وغيرهما فشاورهم، فقال له هرثمة: يا أمير المؤمنين، إنك في موسم مثل هذا ولا آمن إن أحس جعفر بأمر يحيى وخيانته فيه استقبل وعمل في صرف الخلافة، قال: فما الرأي؟ قال: أن تضرب عنق هذا القادم عليك، وكل من معه من الغلمان والحشم حتى لا يخرج خبره، وتأمر بيحيى تطوى به المنازل طيا إلى بغداد، وتظهر لجعفر من اللين والكرامة أضعاف ما كان منك، فإذا دخلت بغداد قتلت جعفرا وجميع البرامكة، واستبدلت بهم.
قال: ففعل هارون كل ما أشار عليه هرثمة إلا قتل محمد بن خالد، فإنه استبقاه وقدم بغدد فقتل جعفر أو الفضل وحبس يحيى بن خالد، واستصفيت أموالهم، وقتلت رجالهم، وأحضر يحيى بن عبدالله، فقال: يا يحيى لم يكفك ما عملت بي حتى أفسدت علي وزرائي، والله لأقتلنك قتلة تحول بينك وبين إفساد أحد علي، فقال له يحيى: اتق الله يا هارون وراقبه، فإنك عن قليل لاقيه، وهو سائلك عن نقض ما أعطيتني من العهود والمواثيق المأخوذة لي عليك، فلا تك ساهيا عن عقاب الله غافلا عن وعده ووعيده، فإنك لا ترجوا من الله ثوابا ولا تخشى عقابا، تعمل أعمال الفراعنة، وتبطش بطش الجبابرة، خليلك ووزيرك من اتبع هواك في معصية الله، وعدوك من دعاك إلى طاعة الله، حسبك يا مغرور ما احتملت من الأوزار، وارجع إلى الله فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويعلم ما في الصدور.
قال: فدفعه الرشيد إلى مسرور، فقال: يكون عندك حتى أسألك عنه، فلما خرج إلى خراسان الخرجة الأولى نزل بقرية من قرى الري يقال لها (رينويه) أمر أن يحفر قبر من ناحية المقابر، ويترك فسمعت جماعة من ناحية أرينويه منهم أحمد بن حمزة، والحسين بن علي بن بسطام، وغيرهم من أهل مدينة الري، والحسن بن إبراهيم بن يونس كلهم يقول ويخبر عن الحفارين الذين حفروا القبر، قالوا: أمرنا أن نحفر قبرا طوله كذا وعرضه كذا، ولا نجعل له لحدا وظننا أنهم يدفنون فيها مالا فصعدنا على شجر كان في المقبرة لننظر ما يدفن، فلما مضى من الليل نصفه إذ بنفر عليهم ثياب بيض وفارس يركض وهو يصيح: خذوه خذوه ويوهم من كان هناك أنه قد راه فسكنا حتى وقفوا على القبر فإذا رجل مكبل بالحديد على بغل ومعهم تابوت على بغل آخر، فوضع التابوت في القبر، وجاء القوم فانزل الرجل من البغل وادخلوه التابوت وهو يقول: يا هارون اتق الله ما يشفيكم قتلي دون عذابي أي درك لك في عذابي، فيقول الملك عظيم هبيته: اطرحوه الآن في التابوت، فما زال يناشده الله والرحم حتى واروه في التابوت فلما انصرفوا، قلنا: والله لو لم نحضر ما كان علينا من دمه، وإن أغفلناه كنا شركاء في دمه، وأخذنا المساحي ثم عالجنا حتى أخرجنا التابوت، فاستخرجناه منه، وبه أدنى رمق، فذهبنا به إلى النهر، فغسلناه بالماء حتى عادت إليه نفسه.
إلى قوله: وصرنا بيحيى إلى منزلنا، فكتب لنا رقعة إلى يحيى بن مالك الخزاعي فوقفنا له حتى ركب ثم دفعنا إليه الرقعة، فقال: قفوا حتى أعود، ثم مضى ساعة يتصيد ثم عاد فقال: أخبروني كيف كانت قصته، فأخبرناه، فبكى، ثم دعا ببدرة دنانير، فقال: ادفعوها إليه وقولوا له: قال يحيى يا مولاي أطو الأرض ولا تعترف إلى أحد من الناس، والحق ببلاد الشر
قال: فأتينا بالبدرة فأخذ منها دينارين ودفع الباقي إلينا ومضى، قال بعضهم يقول: مضى إلى بلاد الشرك، وبعضهم يقول أنه أعقب في بلاد الإسلام بعد هذا، وكان رجل يعرف بعبدالله الله بن منصور، وكان حبرا فاضلا كثير العلم كتب عن الناس من أهل البيت وغيرهم، قال: إنه من ولد يحيى بن عبدالله، وذاك أن جده منصور البخاري أبا أمه كان من أصحاب يحيى فلما طلبوا وأخذ أصحاب يحيى فر من بخارى ونزل قومس، فلما خرج يحيى من القبر لقيه منصور وهو خارج من الجبال بقومس، قال: أين تريد؟ قال: أريد أن أدخل بلاد الشرك تبت أو الترك، قال له منصور: لا تفعل ولكن أقم عندي ولا تعلم أحدا من خلق الله من أنت.
أولاده عليه السلام: محمد – وله العقب -، وعيسى، وإبراهيم درجا، وعبدالله، وصالح درجا، انتهى باختصار.
ترجمة الإمام الشافعي
وكان من دعاة الإمام يحيى بن عبدالله: محمد بن إدريس المطلبي الشافعي رضي الله عنه، المتوفى سنة ثلاث ومائتين، وهو أجل أتباع آل محمد، وأهل الإخلاص في ولاية أبناء الرسول، وهو القائل:
يا أهل بيت رسول الله حبكم …. فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الشأن أنكم …. من لم يصلي عليكم لا صلاة له
وقوله:
يا راكبا قف بالمحصب من منى …. واهتف بواقف خيفها والناهض
قف ثم ناد بأنني لمحمد …. ووصيه وابنيه لست بباغض
إن كان رفضا حب آل محمد …. فليشهد الثقلان أني رافضي
وأفعاله وأقواله في هذا الباب أكثر من أن تحصر.
وكذلك غيره من علماء الأمة الحنيفة، وفضلاء الملة الشريفة، لا يعدلون عن أهل بيت نبيهم، ولا يميلون عن طريق هدايتهم.
فالشافعي أخذ العلم عن يحيى بن خالد المدني، وإبراهيم بن أبي يحيى المدني، وهما قرءا على الإمام زيد بن علي، وكذلك أبو حنيفة النعمان بن ثابت المتوفى سنة مائة وخمسين من تلامذة الإمام زيد بن علي وأتباعه، ومالك بن أنس الأصبحي المتوفى سنة مائة وتسع وسبعين قرأ على الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام، وأفتى بالخروج مع محمد بن عبدالله وأخيه الإمام إبراهيم بن عبدالله عليهم السلام، وأحمد بن حنبل المتوفى سنة (241هـ) أخذ عن الشافعي وألف المناقب.
وغيرهم من أتباع الأئمة، ودعاة أهل البيت الذين استجاب الله فيهم دعوة أبينا إبراهيم خليل الله في قوله: ?فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم? [إبراهيم:37]، ولم يفارق آل رسول الله إلا شذاذ المردة، وطواغيت النفاق، وليسوا من أهل دين محمد على الحقيقة، وإنما ينتحلون الإسلام للتغرير والتلبيس على أتباعهم العوام، وكيف يكون على دين الرسول من فارق عترته وورثته؟!
فهل المتخلفون عنهم إلا سامرية أمة جدهم صلوات الله وسلامه عليه وآله؟ وقد أخر الله الجزاء للعباد إلى يوم المعاد لمؤاخذتهم بأعمالهم بعد الاستحقاق، وإطلاقهم من هذه الدار، وتمكينهم من الإختيار، فنسأل الله التوفيق والاستقامة.