الإمام الناصر أحمد بن يحيى
الإمام الناصر لدين الله أبو الحسن أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق عليهم السلام، كان وقت وفاة أبيه في الحجاز، فلما قدم بعد تخلي الإمام المرتضى واعتزاله للعبادة اجتمع الإمامان وبايع الإمام المرتضى أخاه الإمام الناصر.
قال الإمام المرتضى – لما اعتزل عن الإمامة في خطبة له -: (ثم إنكم معاشر المسلمين أقبلتم علي عند وفاة الهادي عليه السلام، وأردتموني على قبول بيعتكم.
..إلى قوله: فأجريت أموركم على ما كان الهادي رضي الله عنه يجريها، ولم أتلبس بشيء من عرض دنياكم ولم أتناول قليلا ولا كثيرا من أموالكم، فلما أخزى الله القرمطي، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزا، تدبرت أمري وأمركم، ونظرت فيما أتعرضه من أخلاقكم، فوجدت أموركم تجري على غير سننها، وألفيتكم تميلون إلى الباطل، وتنفرون عن الحق.
..إلى قوله: وعما نأمركم بطاعة الله مزورين وعنه نافرين، وإلى أعداء الله وأعداء دينه الجهال الفساق راكنين، وقد قال الحكيم العليم في محكم التنزيل: ?ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون? [هود:113]، فلما لم أجد فيكم من يعين الصادق المحق، ويأمر بالمعروف، ويرغب في الجهاد، ويختار رضى الله جل وعز على رضى المخلوقين إلا القليل في القبيلة واليسير من الجماعة أنزلت هذه الدنيا من نفسي أخس المنازل، وآثرت الآخرة.
..إلى قوله: وذلك من غير زهد مني في جهاد الظالمين، ومنابذة الفاسقين، ومباينة الجائرين، مع علمي بما فرض الله عز وجل منه على عباده في وقته وأوانه، وأيقنت مع الأحوال التي وصفتها، والموانع التي ذكرتها أن السلامة عند الله في الزهد في الدنيا، والاشتغال بعبادة رب العالمين، والاعتزال عن جميع المخلوقين، وذلك بعد رجوعي إلى كتاب الله سبحانه، واشتغال خاطري بتدبر آياته، وإعمال فكري ونظري في أوامره وزواجره، ومحكمه ومتشابهه، وخاصه وعامه، وأمره ونهيه، وناسخه ومنسوخه، فوجدته يوجب علي التبري من هذا الأمر إيجابا محكما، ويلزمني تركه إلزاما قاطعا، فاتبعت عند ذلك أمر الله، ونزلت عند حكمه، فإن تقم لله عز وجل علي من بعد ذلك حجة، ووجدت على الحق أعوانا، وفي الدين إخوانا، قمت بأمر الله، طالبا لثوابه، حاكما بكتابا، متقلدا لأمره، متبعا سنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لا أفارقه ولا أعدل عنه، حتى يعز الله الحق ويبطل الباطل، وألحق بصالح سلفي، الذين مضوا لله طائعين، وبأمره قائمين، وإن لم أجد على ذلك أعوانا صادقين، وإخوانا لأمر الله متبعين لم أدخل بعد اليقين في الشبهة، ولم أتلبس بما ليس لي عند الله بحجة، وكنت في ذلك كما قال الله تعالى: ?فتول عنهم فما أنت بملوم? [الذاريات:54]،…إلى آخره).
ولهما عليهما السلام اليد الطولى في تجديد الدين، وطمس آثار الملحدين.
وللعلامة ولي آل محمد إبراهيم بن محمد التميمي رضي الله عنه وجزاه الله تعالى أفضل ما يجزي المحسنين على قيامه بحق أهل البيت المطهرين، وأوليائهم أنصار الدين، عندما بايع الإمم المرتضى لدين الله أخاه الإمام الناصر لدين الله، وبايعه الناس بجامع الإمام الهادي إلى الحق عليهم السلام، وقد اجتمع الجمع الكثير، والجم الغفير، يوم الجمعة، وقد أورد هذه الكلمة الرائعة: صاحبا الحدائق الوردية، ومطلع البدور، قال رضي الله عنه:
عادات قلبك يوم البين أن يجبا …. وأن يراجع فيه الشوق والطربا
إلى قوله في المدح:
قوم أبوهم رسول الله حسبهم …. بأن يكون لهم دون الأنام أبا
من ذا يفاخر أولاد النبي ومن …. هذا يداني إلى أنسابهم نسبا
قوم إذا افتخر الأقوام واجتهدوا …. وجدت كل فخار منهم اكتسبا
لولا الإله تلافانا بدينهم …. لما فتينا عكوفا نعبد الصلبا
أقام جبريل في أبياتهم حقبا …. يتلو من الله في حافاتها الكتبا
أنتم أناس وجدنا الله صيركم …. لنا إليه إذ لذنا به سببا
ومنها:
لا يصلح الدين والدنيا بغيركم …. ولا يقال لمن سامى بكم كذبا
من عابكم حسدا عاب الإله ومن …. عاب الإله فقد أودى وقد عطبا
ومن يسالمكم يسلم بسلمكم …. ومن يحاربكم جهلا فقد حربا
لم يفرض الله أجرا غير حبكم …. لجدكم خاتم الرسل الذي انتخبا
حق الصلاة عليكم والدعاء لكم …. فرض على كل من صلى ومن خطبا
تشوف الملحدون النوك إذ علموا …. إن الإمام علينا اليوم قد عتبا
فقلت لا ترفعوا جهلا رؤوسكم …. فيأخذ السيف من هاتيك ما انتصبا
إن الإمام وإن أبدى معاتبة …. منه ليشبه فينا الوالد الحدبا
كانت أمور وكان الله بالغها …. ومحنة منه قد كانت لنا أدبا
وقد تولى أمور الناس كلهم …. بعد الإمام فتم الأمر أو كربا
صنو الإمام ومن سد الإمام به …. نهج الثغور ولم الصدع وارتأبا
هذا أبو حسن والجود في قرن …. أمسى بذي يمن أمنا لمن رهبا
ساس الأمور وكانت قبل مهملة …. وقام فينا بدين الله محتسبا
إذا تحجب أهل المال وامتنعوا …. لم تلفه خشية الإملاق محتجبا
صلب له شيم أقواله نعم …. أفعاله كرم يرتاح إن طلبا
يعطي الجزيل ولا يرضى القليل ولا …. يجفو الخليل لذنب جد أو لعبا
لما بدا ابن رسول الله منصلتا …. يوم العروبة في خولان إذ ركبا
تحفه عصب ضاقت بها عصب …. من حولها عصب تتلو بها عصبا
رجال سعد بن سعد والربيعة إذ …. أتوا إليه جميعا جحفلا لجبا
كأنه اليم إذ جاشت غواربه …. إذا تلاطم موج البحر وارتكبا
أو كالعريض إذا التفت سحائبه …. وطبق الأرض والآفاق وانسكبا
راق العيون وسر المسلمون به …. وساء من عاند الإسلام فاكتأبا
ومنها:
على شفا جرف هار مواقفهم …. لا يستطيعون من إشعاعها هربا
حتى تداركهم منها فأنقذهم …. رب بجدك منها أنقذ العربا
فألف الله بالإحسان بينهما …. بيمنكم فأماط الحرب واصطحبا
تلك الصنائع عند العالمين لكم …. لا يعدلون بها الأوراق والذهبا
فأنتم رحمة فينا لأولنا …. وآخرينا وهذا الشكر قد وجبا
انتهى، ولله دره ما أعذب ألفاظها، وأطيب نشرها، وأصدق معناه، ((إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر حكما))، أخرجه بهذا اللفظ أحمد في مسنده، وأبو داود عن ابن عباس، كما في الجامع الصغير.
وأخرج أبو داود من حديث بريدة: ((إن من البيان سحرا، وإن من العلم جهلا، وإن من الشعر حكما، وإن من القول عيا)).
ولم يزل الإمام الناصر قائما بأمر الله، مثابرا لأعداء الله، وأظهره الله على أقطار اليمن كافة فصدعت فيه أحكام الملة الحنيفية، وامتدت عليه أعلام السلالة المحمدية، واستأصل أرباب الدعوة الملحدة من القرامطة الباطنية، وقد كانوا تحزبوا تحزبا، وارتجت منهم الأرض، فأخذتهم سيوف الإمام الناصر، قتل في وقعة واحدة ثمانية وأربعون رئيسا من دعاتهم، وأما العساكر والأتباع، فلم تنحصر القتلى منهم حتى جرت الدماء جري الأنهار.
قال عبدالله بن عمر الهمداني مؤلف سيرة الإمام وأحد فرسانه: لقد شهدت الحرب، فما رأيت يوما كيوم نغاش أكثر قتلى من أعداء الله القرامطة، ولقد حبست فرسي في موضع كثر فيه القتلى، فلقد سمعت خريرا للدماء كخرير الماء إذا هبط من صعود، فلما وقعت الهزيمة فيهم، أخذوا الجبل عموما من كثرتهم فدخلت الوحوش بينهم فقتلت.
وقال: وجدنا منهم موتى بسلاحهم ليس بهم جرح، وذلك لنصر الله لأهل بيت نبيه، انتهى.
وانهدت بهذه الوقعة دعائم الملحدين، وأبادهم الله من أرض اليمن بعد أن حاولوا هدم الإسلام، ونقض عرى الدين، ودخل الإمام الناصر عدن أبين ومعه من جنود الله ثمانون ألفا فيهم أربعون ألف قائس، وألف وخمسمائة فارس.
وهذه حالة الإمام الناصر عليه السلام في الإرشاد للأمة وبيان ما أنزل الله إلى أن قبضه الله في ثامن عشر من ذي الحجة سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، ومدة قيامه بالإمامة ثلاث وعشرون سنة.
أولاده: أبو محمد القاسم المختار، وعلي، ويحيى عقبهم باليمن، وإسماعيل عقبه بحلب وغيرها، والحسن المنتجب أولاده ببغداد، وداود عقبه برام هرمز وغيرها، والرشيد عقبه بدمشق، وإبراهيم عقبه بمصر، ومحمد بحلب، والحسين والمهدي هنالك، ولا شك أن المجددين في المائة الثالثة هم هؤلاء الأئمة، والأثر الأكبر في التجديد للهادي إلى الحق والناصر الأطروش.
مؤلفاته: قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: وله تصانيف في العلوم جمة على اختلاف أنواعها، أولها: كتاب التوحيد في نهاية البيان والتهذيب، وكتاب النجاة ثلاثة عشر جزءا، وكتاب مسائل الطبريين جزآن في الفقه، وكتاب علوم القرآن، وأربعة أجزاء في الفقه، وكتاب التنبيه، وكتاب أجاب به الخوارج الإباضية، وكتاب الدامغ أربعة أجزاء.
قلت: وما في كتاب النجاة في شأن أبي طالب رضي الله عنه غير صحيح، ومما يدل على ذلك دلالة واضحة أنه ساق الأبيات التي تدل على إيمانه وتصديقه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعلها دلالة على ضد ذلك، فحاشاه أن يخالف إجماع أهل البيت عليهم السلام، ومما يدل على طهارة هذا البيت الطاهر ما رواه أهل البيت عليهم السلام.
وقد حكى الإجماع على إيمانه خمسة من أعلام أهل البيت وأوليائهم منهم: الإمام الأعظم المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليهما السلام في جوابه على ابن المعتز العباسي بقوله:
حماه أبونا أبو طالب …. وأسلم والناس لم تسلم
وقد كان يكتم إيمانه …. فأما الولاء فلم يكتم
والقاضي جعفر بن عبد السلام، والشيخ الحسن – والفقيه حميد الشهيد – والحاكم صاحب التهذيب، وقال أبو القاسم البلخي يعني ممن ذهب إلى إيمانه: أبو جعفر الإسكافي، والقرطبي، والشعراني وغيرهم.
وقوله:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا …. نبيا كموسى والمسيح بن مريم
رواه ابن هشام، وابن أبي الحديد، وصاحب الاكتفاء، وقد رد المنصور بالله والمعلوم أن أبا طالب وعبد المطلب وهاشما لم يعبدوا الأوثان، ويكفي في ذلك قول أبي طالب:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا …. يصلون للأوثان قبل محمد
وقد قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: (وما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قط، كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم الخليل متمسكين به)، رواه أبو العباس الحسني بسنده إلى علي عليه السلام.
وقال أبو طالب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أشد تصديقنا لحديثك وأقبلنا لنصحك..إلى أن قال: وبالغيب آمنا..إلخ.
وقد روي عن علي بن محمد الباقر أنه سئل عما يقول الناس في إيمان أبي طالب، فقال: لو وزن إيمان أبي طالب وإيمان هذا الخلق لرجح إيمانه، ثم قال: ألم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان يأمر أن يحج عن عبدالله وأبيه وأبي طالب في حياته ثم أوصى في وصيته بالحج عنهم.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمي وعمي أبي طالب)) رواه المحب الطبري، انتهى من تفريج الكروب، ورواه ابن عساكر عن ابن عمر، وأخرجه عنه تمام الرازي.
ومما رواه الإمام الحسن بن بدر الدين عن ابن عمر، قال: جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم..إلى قوله: والذي بعثك بالحق نبيا لأنا بإسلام أبي طالب أشد فرحا بإسلام أبي، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صدقت.
وروى أيضا عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أخبر بموت أبي طالب بكى، وقال: اذهب فاغسله وكفنه..إلى قوله: غفر الله له ورحمه، انتهى.
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عارض جنازة أبي طالب، فقال: وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم، أخرجه ابن عدي.
ولما مات أبو طالب أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغسله وكفنه، ثم كشف عن وجهه، فمسح بيده اليمنى على جبهته اليمنى ثلاثا، ثم مسح بيده اليسرى على جبهته اليسرى ثلاثا، ثم قال: كفلتني يتيما، وربيتني صغيرا، ونصرتني كبيرا، فجزاك الله عني خيرا، رواه أبو العباس الحسني عن الباقر عليه السلام.
ولما قارب أبو طالب الموت، قال العباس له صلى الله عليه وآله وسلم: والله يا ابن أخي لقد قال الكلمة التي أمرته بها أن يقولها، رواه ابن هشام، والحلبي في سيرته، وصاحب الاكتفاء، وحكى في فتح الباري عن ابن إسحاق بسنده إلى ابن عباس مثله.
قال: وقد ذكر السهيلي أنه رأى في بعض كتب المسعودي أنه أسلم، وروى الإمام أبو طالب بسنده إلى زين العابدين، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((يبعث عبد المطلب يوم القيامة أمة وحده)).
وقد روى المسيب أن أبا طالب قال: أنا على ملة عبد المطلب، وعبد المطلب كان على دين إبراهيم مصدقا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وما أحسن قول ابن أبي الحديد:
ولولا أبو طالب وابنه …. لما مثل الدين شخصا فقاما
فهذا بمكة آوى وحامى …. وهذا بيثرب جس الحماما
تكفل عبد مناف بأمر …. فكان علي لذاك تماما
فأما ما ترويه العامة مما يفيد عدم إيمانه، فانحرافهم عن الطالبيين وميلهم إلى موافقة غرض الدولتين مما يحملهم على الوضع وقبول ما وضع، وتزييف ما خالف هواهم، فعليكم بالثقل الأصغر تنجوا يوم الفزع الأكبر، والله المستعان، انتهى أغلبه من التخريج.
ومما يدل دلالة صريحة بما ذكرناه من هذا البيت الطاهر الشريف ما رواه أهل السير والتاريخ من قصة عبدالله بن عبد المطلب مع الكاهنة التي تعرضت له، وذلك ما رواه أبو العباس الحسني قال: أخبرنا عمر بن مسلمة الخزاعي، قال: حدثنا علي بن حرب: حدثنا محمد بن عمارة القرشي عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لما خرج عبد المطلب بن هاشم بابنه عبدالله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة قد قرأت الكتب كلها متهودة يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبدالله، فقالت له: يا فتى، هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل، فقال:
أما الحرام فالممات دونه …. والحل لا حل فاستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه …. يحمي الكريم عرضه ودينه
..إلى آخر القصة، وقد ذكرها الإمام أبو طالب في أماليه.
وقبره: بمشهد أبيه عليهم السلام.
وتعلق الجار والمجرور الذي قبل ما النافية بما بعدها في قولنا: بسيفيهما ما إن تعد الوقائع، قد ورد، ومنه: قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: ونحن عن فضلك ما استغنينا. فليس فيه ضعف تأليف.