الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام

هو الإمام الهادي إلى الحق المبين، أبو الحسين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
ولد بالمدينة المطهرة سنة خمس وأربعين ومائتين، وحمل إلى جده القاسم عليهما السلام فوضعه في حجره المبارك وعوذه، وقال لأبيه: بم سميته؟ قال: يحيى – وقد كان للحسين أخ يسمى يحيى توفي قبل ذلك – فبكى القاسم حين ذكره، وقال: هو والله يحيى صاحب اليمن. وإنما قال ذلك لأخبار رويت بذكره.
وبقي القاسم عليه السلام بعد ذلك سنة واحدة، وإلى ذلك أشار الإمام الداعي يحيى بن المحسن بقوله:
وأعلن القاسم بالبشاره …. بقائم فيه له أماره
من الهدى والعلم والطهاره …. قد بث فيه المصطفى أخباره
بفضله وأوجب انتظاره
…إلى آخره.
صفته عليه السلام: قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: كان أسديا أنجل العينين، غليظ الساعدين بعيد ما بين المنكبين والصدر، خفيف الساقين والعجز، كالأسد.
قيامه عليه السلام: سنة ثمانين ومائتين، أقام الله به الدين في أرض اليمن، وأحيا به رسوم الفرائض والسنن، فجدد أحكام خاتم النبيين، وآثار سيد الوصيين، وله مع القرامطة الخارجين عن الإسلام نيف وسبعون وقعة، كانت له اليد فيها كلها، ومع بني الحارث، نيف وسبعون وقعة. وخطب له بمكة المشرفة سبع سنين، كما ذكر ذلك في عمدة الطالب، وغيره.
قال الإمام أبو طالب عليه السلام: وكان – الإمام الناصر الأطروش – يحث الناس على نصرة الهادي يحيى بن الحسين، ويقول: من يمكنه أن ينصره وقرب منه فنصرته واجبة عليه، ومن تمكن من نصرتي وقرب مني فلينصرني.
شيء من الآثار الواردة فيه:

وفيه آثار عن جده النبي وأبيه الوصي، منها: عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: (ما من فتنة إلا وأنا أعرف سائقها وناعقها، ثم ذكر فتنة بين الثمانين والمائتين (قال): فيخرج رجل من عترتي اسمه اسم نبي، يميز بين الحق والباطل، ويؤلف الله قلوب المؤمنين على يديه).
وأشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيده إلى اليمن، وقال: ((سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة اسمه يحيى الهادي يحيي الله به الدين)).
ويسر الله له علم الجفرالذي أوحى الله إلى نبيه فيه علم ما يكون إلى يوم القيامة، وكان معه ذو الفقار سيف أمير المؤمنين، وإلى ذلك أشار صاحب البسامة بقوله:
من خص بالجفر من أبناء فاطمة …. وذي الفقار ومن أروى ظما الفقر
شيء مما قيل فيه:
ومن الشهادات التاريخية الحقة ما شهد به للإمام الهادي إلى الحق وللأئمة من أهل البيت الحافظ ابن حجر في فتح الباري شرح البخاري، حيث فسر بهم الخبر النبوي المروي في البخاري وغيره، وهو: ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان))، فأفاد أنه صدق الحديث ببقاء الأمر في قريش باليمن من المائة الثالثة في طائفة من بني الحسن، قال: ولا يتولى الإمامة فيهم إلا من يكون عالما متحريا للعدل.
إلى قوله: والذي في صعدة وغيرها من اليمن، لا شك في كونه قرشيا ؛ لأنه من ذرية الحسن بن علي.

وقال العلامة إمام المحدثين في عصره، مؤلف بهجة المحافل يحيى بن أبي بكر العامري في الرياض المستطابة ما لفظه ك ثم في زمن المعتمد والمعتضد والمقتدر إلى المستعصم آخر ملوك العباسيين، تحرز أهل البيت إلى بلدان لا يقدر عليهم فيها مثل: جيلان وديلمان وما يواليها من بلاد العجم، ومثل نجد اليمن كصنعاء وصعدة وجهاتها، واستوثق أمرهم وقاموا بالإمامة بشروطها قاهرين ظاهرين، فقام منهم بنجد اليمن نحو بضع وعشرين إماما أولهم وأولاهم بالذكر الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى، كان مولده بالمدينة، ومنشاؤه بالحجاز، وتعلمه به وبالعراق، وظهور سلطانه باليمن سنة ثمانين ومائتين، وكان جاء إلى اليمن وقد عم بها مذهب القرامطة والباطنية، فجاهدهم جهادا شديدا، وجرى له معهم نيف وثمانون وقعة لم ينهزم في شيء منها، وكان له علم واسع، وشجاعة مفرطة.
إلى قوله: ثم قام بعد الهادي ولده المرتضى محمد بن يحيى، ثم ولده الناصر أحمد بن يحيى، وكانا ممن جمع خصال الكمال والفضل كأبيهما، ودفنا إلى جنبه بصعدة، ومن ذريتهما أكثر أشراف اليمن.
ثم ساق في تعداد الأئمة فأورد قطعة تاريخية، وبحثا نفيسا يدل على غزارة علم واطلاع وإنصاف واعتراف بالحق وبعد عن الإنحراف.
حتى قال: وقد ذكر ابن الجوزي وغيره: أن الأئمة المتبوعين في المذاهب بايع كل واحد منهم لإمام من أئمة أهل البيت، بايع أبو حنيفة لإبراهيم بن عبدالله بن الحسن، وبايع مالك لأخيه محمد، وبايع الشافعي لأخيهما يحيى.
وقال ابن حزم صاحب المحلى – في ذكر أولاد الإمام الناصر – ما لفظه: والحسن المنتخب، والقاسم المختار، ومحمد (المهدي)، بنو أحمد الناصر بن يحيى الهادي بن الحسين بن القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا، وليحيى هذا الملقب بالهادي رأي في أحكام الفقه قد رأيته لم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد..إلى آخره.

وقال نشوان الحميري في كتاب الحور العين ص196ما لفظه: وأول من دعا باليمن إلى مذهب الزيدية ونشر مذهب أئمتهم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ولقبه الهادي إلى الحق، فنزل بين خولان، وقال:
والله والله العظيم ألية …. يهتز عرش الله منها الأعظم
إني لودك يا حسين لمضمر …. في الله أبديه وحينا أكتم
إلى قوله:
ولود سائر بيت آل محمد …. فودادهم فرض علي ومغنم
قوم أدين بحبهم وبدينهم …. ونصوصهم أفتي الخصوم وأحكم
خروجه إلى اليمن:
ولما انتشرت فضائله، وظهرت أنواره وشمائله، وفد إليه وفد أهل اليمن، فسألوه إنقاذهم من الفتن، فساعدهم وخرج الخرجة الأولى، ثم كر راجعا لما شاهد من بعض الجند أخذ شيء يسير من أموال الناس، فنزل بأهل اليمن من الشدائد والفتن ما لا قبل لهم به، فعاودوا الطلب وتضرعوا إليه، فأجابهم وخرج ثانيا عام أربعة وثمانين.
ومن كلامه المأثور: (يا أهل اليمن لكم علي ثلاث: أن أحكم فيكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن أقدمكم عند العطاء، وأتقدمكم عند اللقاء، ولي عليكم: النصح، والطاعة ما أطعت الله). ولقد أقسم في بعض مقاماته أنه لا يغيب عنهم من رسول الله إلا شخصه (إن أطاعوه).
ولقد حكى عالم من علماء الشافعية – وصل من العراق لزيارته – من علمه وعدله وفضله وسيرته النبوية ما بهر الألباب، وأنه شاهده يتولى بيده الكريمة معالجة الجرحى، ويتولى بنفسه إطعام اليتامى والمساكين، وغير ذلك مما هو مشهور، وعلى صفحات التاريخ مسطور.
إذا كان فضل المرء في الناس ظاهرا …. فليس بمحتاج إلى كثرة الوصف

وما نشر الله في أقطار الدنيا أنواره، وبث في اليمن الميمون بركاته وآثاره – منذ أحد عشر قرنا – إلا لشأن عظيم، ولقد ملأ اليمن أمنا وإيمانا، وعلما وعدلا، ومساجد ومعاهد، وأئمة هدى، وما أصدق قول القائل فيه عليه السلام:
فسائل الشهب عنه في مطالعها …. والفجر حين بدا والصبح حين أضا
سل سنة المصطفى عن نجل صاحبها …. من علم الناس مسنونا ومفترضا
وكراماته المنيرة، وبركاته المعلومة الشهيرة مشرقة الأنوار، دائمة الاستمرار على مرور الأعصار، وما أحقه بقول القائل في جده الحسين السبط صلوات الله عليه:
أرادوا ليخفوا قبره عن وليه …. فطيب تراب القبر دل على القبر
بينه وبين الدعام:
ومن قصيدة له عليه السلام إلى الدعام بن إبراهيم الأرحبي، يحثه على الجهاد في سبيل الله، ويذكر سوابق همدان مع أمير المؤمنين وأخي سيد المرسلين، صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين:
انهض فقد أمكنتنا فرصة اليمن …. وصل فضائل كانت أول الزمن
وسابقات وإكراما ومكرمة …. كانت مع الطاهر الهادي أبي الحسن
ويوم صفين والفرسان معلمة …. تخوض في غمرات الموت في الجنن
والروح حام ويوم النهروان لكم …. والنقع مرتفع بالبيض والحصن
ونصرهم لأمير المؤمنين على …. محض المودة والإحياء للسنن
وقم فزد شرفا يعلو على شرف …. في حي همدان والأحياء من يمن
ففيك ذاك بحمد الله نعرفه …. إذ أنت ليث الوغا في السلم والفتن
واستغنم الأمر نهضا يا دعام به …. ما دام روح حياة النفس في البدن
…إلى آخرها.

فأجابه الدعام بهذا الشعر:
أتى كتاب إمام صادق لقن …. بالفرض يأمرنا منه وبالسنن
هذا أبوه رسول الله يتبعه …. خير البرايا إمام من بني الحسن
أبو الحسين الزكي الهاشمي فما …. خذلانه بحلال يا ذوي الفطن
وكيف ذاك وفي خم لطاعته …. فرض علينا به قد قام لم يهن
أنت المقدم يا ابن المصطفين فما …. لنا سواكم برغم الكاشح الضغن
أقدم على الرشد والتوفيق معتمدا …. على الإله فعندي النصر بالبدن
وبالبنين وبالأموال قاطبة …. وبالعشائر من همدان في سنن
تترى بنصرك يا ابن الطاهرين كما …. تترى من الماء أسبال من المزن
معي فوارس من همدان ناصحة …. لله صادقة في القول والدين
أنا سنانك أوهي حد سورة من …. ناواك يا ابن رسول الله في اليمن
أقود خيلك أحمي عن مكارهها …. بذي كعوب وماض حده أرن
شفى الصدور كتاب أنت كاتبه …. هذا وأيقظنا من نومة الوسن
ذكرت سالف أجدادي الذين سعوا …. في نصر جدك في ماض من الزمن
أنا خليفتهم في نسل قائدهم …. يحيى الإمام بلا عجز ولا غبن
ما بعد قولك من قول فنتبعه …. يا ابن الحطيم ويا ابن الحجر والركن
يا ابن الوصي أمير المؤمنين ويا …. نسل البتول ومن قد فاز بالمنن
حبلي بحبلك موصول بلا كذب …. والود مني لكم ينقاد بالرسن
إلى اتباعك فاحفظها منحلة …. من سامع لك لا ينساك في الوطن
إنا نرى من تنحى عن ولايتكم …. كجاحد مال من جهل إلى وثن
ومنها:
واعزم على ما آراك الله من رشد …. حتى تميز عن كشف من المحن
وتستبين فعالي في مسيركم …. حقا وليس مقالي فيك بالأفن
شيء من كلامه:
قال عليه السلام في تفسيره لآيات من كتاب الله: والقرآن، فإنما نزل على العرب بلغتهم، وخاطبهم الله فيه بكلامهم، والنفس تدخلها العرب في كلامها صلة لجميع ما تأتي به من مقالها، وقد تزيد غير ذلك في مخاطبتها، وما تسطره من أخبارها، مثل: (ما) و (لا)، وغير ذلك مما ليس له عندها معنى، غير أنها تحسن به كلامها، وتصل به قيلها وقالها.

إلى أن قال: وفي ذلك ما يقول الرحمن الرحيم – فيما أنزل على نبيه من الفرقان العظيم من قول موسى عليه السلام -: ?قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا(92)ألا تتبعن أفعصيت أمري(93)? [طه:92- 93]، إلى أن قال: ومثل هذا كثير فيما نزل ذو الجلال والإكرام.
ومن ذلك قوله سبحانه: ?فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك? [آل عمران:159]، وقوله: ?فبما نقضهم ميثاقهم? [النساء:155]،..إلى آخر كلامه.
وقال – مبينا لما خاطب الله به الخلق – وسألت عن قول الله سبحانه: ?والسماوات مطويات بيمينه? [الزمر:67]، وهذا رحمك الله فمثل ضربه الله لهم مما تعرفه العرب وتمثل به، وذلك أن العرب تقول لمالك الشيء: هو في يده وهو في يمينه، تريد بذلك تأكيد الملك له ؛ لأن كل ما كان في يد المالك فهو أقدر ما يكون عليه.
حتى قال: فأما قوله: ?مطويات بيمينه? فإخبار منه لهم بأن السماوات مطويات في ملكه، متصرفات في أمره، مجموعات في حكمه، كما يجمع الشيء المطوي جامعه، ويحوزه ويضم عليه طاويه، فمثل لهم أمر نفاذ حكمه في السماوات، وقدرته عليهم بما يعرفون من مقدرتهم على ما يطوونه وينشرونه..إلى تمام كلامه.
وقال عليه السلام في جواب مسألة النبوة والإمامة في الأنبياء: ثم أبان معهم العلم والدليل، الذي يدل على أنهم رسل مبعوثون برسالته إلى خلقه.
وأشار إلى معجزات الرسول، حتى قال في ذكر الأوصياء: والعلم والدليل فهو فضلهم على أهل دهرهم، وبيانهم على جميع أهل ملتهم.

إلى أن قال: وعلمهم ودليلهم فهو العلم بغامض علم الأنبياء، والاطلاع على خفي أسرار الرسل. قال: من ذلك ما كان يوجد عند وصي موسى، وعن وصي عيسى عليهم السلام، مما لا يوجد عند غيرهم من أهل دهرهم، ومن ذلك ما يوجد عند وصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب.
قال: ومن ذلك ما كان عنده من كتاب الجفر، وما كان عنده من علم ما يكون إلى يوم القيامة.
وقال في وصف المستحقين للإمامة من ذرية الرسول: بولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبمعرفتهم بذي الجلال والإكرام، والورع الذي جعله الله قواما للإسلام، وبالمعرفة بالحلال عند الله والحرام، وبما يحتاج إليه في الدين جميع الأنام.
حتى قال: وبكشف الرؤوس، وتجريد السيوف، ورفع الرايات لله تعالى وفي الله عز وجل، والمنابذة لأعداء الله، وبإظهار الدعاء إلى الله.
إلى أن قال: وإحياء الكتاب والسنة، وإقامة الحق والعدل في الرعية، والإطلاع على غامض كتاب الله ووحيه، الذي لا يطلع عليه إلا من قلده الله السياسة، وحكم له بالإمامة..إلى تمام كلامه.
عبادته:
روى سليم الذي كان يتولى خدمته: أنه تبعه في بعض الليالي، وكان يسير مع الإمام إلى الموضع الذي يبيت فيه ثم ينصرف، وفي تلك الليلة رأى أن يبيت على الباب – ولم يعلم به الإمام – لينظر ما يصنع، قال: فسهر الليل أجمع ركوعا وسجودا، وكنت أسمع وقع دموعه، ونشيجا في حلقه (ع).

مؤلفاته:
كان عليه السلام لا يتمكن من إملاء مسألة إلا وهو على ظهر فرسه في أغلب الأوقات، ومن مؤلفاته: كتاب الأحكام، والمنتخب، وكتاب الفنون، وكتاب المسائل، ومسائل محمد بن سعيد، وكتاب التوحيد، وكتاب القياس، وكتاب المسترشد، وكتاب الرد على أهل الزيغ، وكتاب الإرادة والمشيئة، وكتاب الرضاع، وكتاب المزارعة، وكتاب أمهات الأولاد، وكتاب العهد، وكتاب تفسير القرآن ستة أجزاء، ومعاني القرآن تسعة أجزاء، وكتاب الفوائد جزآن، وكتاب مسائل الرازي جزآن، ,كتاب السنة، وكتاب الرد على ابن الحنفية، وكتاب تفسير خطايا الأنبياء، وكتاب أبناء الدنيا، وكتاب الولاء، وكتاب مسائل الحسين بن عبدالله (الطبري)، ومسائل ابن أسعد، وكتاب جواب مسائل نصارى نجران، وكتاب بوار القرامطة، وكتاب أصول الدين، وكتاب الإمامة وإثبات النبوة والوصاية، وكتاب مسائل أبي الحسين، وكتاب الرد على الإمامية، وكتاب الرد على أهل صنعاء، والرد على سليمان بن جرير، وكتاب البالغ المدرك في الأصول شرحه الإمام أبو طالب، وكتاب المنزلة بين المنزلتين.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: وقد تركنا قدر ثلاثة عشر كتابا كراهة التطويل، وهي عندنا معروفة موجودة. انتهى كلام الإمام عليه السلام.
قلت: فانظر إلى هذا مع اشتغاله بإظهار الدين الحنيف، وضربه بذي الفقار رؤوس أهل الزيغ والتحريف، وقد كان ابتداؤهم في التأليف من عصر الوصي عليه السلام، فقد كانوا يكتبون ما يمليه عليهم من العلوم الربانية، والحكم البالغة، التي خص الله بها أهل هذا البيت الشريف، ومؤلفاتهم بين ظهراني الأمة قد ملؤوها بحجج العقول، وأكدوها بصحة المنقول.
أما التوحيد والعدل، فإمامهم فيه والدهم الوصي، الذي خطب به، وبلغ الخلق على رؤوس المنابر، ولقنه أولاده الوارثين له كابرا عن كابر.

وأما سنة جدهم فمن باب المدينة دخلوا، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه، ولقد حفظ بعضهم عن باقر علم الأنبياء محمد بن علي سبعين ألف حديث.
وأما علوم اللغة فمنها ارتضعوا، وفيها دبوا ودرجوا، ومن زلالها كرعوا، يتلقونها أبا عن أب، لم تدنسها السنة العجم، ولا غيرتها تحاريف المولدين، بل تربوا في حجور آبائهم الطاهرين، ليس لهم هم إلا تعريفهم ما أنزل الله من الفرائض، وتبيين ما ضل عن الخلق من الغوامض، لم يكن بينهم وبين أبيهم أمير المؤمنين وأخي سيد المرسلين – من كلامه فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق، من احتذت على آثاره فصحاء الأمة، واقتبست من أنواره بلغاء الأئمة – إلا إمام سابق، ومقتصد لاحق، وهم العرب الصميم، وأرباب زمزم والأباطح والحطيم، فلولا أن ما نقلته النقلة من أهل اللغة موافق لكلام الله وكلام رسوله وأهل بيته لما قبلناه منهم، ولما أخذناه عنهم، فهو معروض على هذه الأصول الحكيمة، والقواعد الراسخة القويمة، ومن له عناية في اقتفاء آثار أهل بيت نبيه، أمكنه أن يأخذ من كلامهم متون اللغة وإعرابها وتصريفها، ومعانيها وبيانها وبديعها وتأليفها، وحقائق التأويل، وطرائق التنزيل، فلم يأتمنهم الله على دينه، إلا وهم أهل لحمله وتلقينه، ?الله أعلم حيث يجعل رسالته? [الأنعام:124].
وفاته: قبضه الله إليه شهيدا بالسم، وهو في ثلاث وخمسين سنة، ليلة الأحد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثمان وتسعين ومائتين، ودفن يوم الاثنين في قبره الشريف المقابل لمحراب جامعه الذي أسسه بصعدة، وروى السيد أبو العباس عليه السلام أنه نعي إلى الإمام الناصر الأطروش فبكى بنحيب ونشيج، وقال: اليوم انهد ركن الإسلام.

مشهده بصعدة من أرض اليمن، وقد كان عليه السلام رأى نورا ساطعا في حال حياته، واختط الجامع المقدس على جذوة ذلك النور. ذكر ذلك بتمامه في (الأسانيد اليحيوية) في قصة لا يسع الحال الإتيان بها، وكان ذلك أول أساس لصعدة هذه الموجودة المعمورة ببركته، وكانت صعدة القديمة تحت جبل تلمص كما هو المشهور.
أولاده المعقبون: محمد، وأحمد، والحسن.

محمد بن عبيدالله وولده علي
وكان من المتولين للجهاد بين يدي الإمام الهادي وأولاده، الأشراف العلويون من أولاد العباس بن أمير المؤمنين، منهم: أبو جعفر محمد بن عبيدالله، قتل شهيدا مع الإمام الهادي عليه السلام بنجران غدرا.
وقضيته تشبه قضية الإمام الحسين بالطف، وقد بلغ الحقد والإنتقام والجراءة الغاية، ويكفي في ذلك قول الشاعر القرمطي، حيث ارتجز وهو يحز رأس أبي جعفر محمد بن عبيدالله العلوي:
ولا أبالي بعد ذا ما حل بي
شفيت نفسي وبلغت مأربي
من سخط الله ومن لعن النبي
وقد كتب ولد محمد بن عبيدالله إلى الهادي عليه السلام قصيدة طويلة، يقول فيها:
ابن الحسين تحالفت حار على …. أن يقتلونا يا بني العباس
يا ابن الحسين تقاسموا أموالنا …. وخيولنا فافرج بصولة قاسي
عجل بنصرك يا ابن أكرم هاشمي …. وافكك عشيرك من يد الخناس
فيها الأراقم والأفاعي كلها …. يسقيننا سم الحتوف بكاس
لا خير في حار ولا أحلافها …. (يام) فإنهم من النسناس
لا يشكرون صنائعا أوليتهم …. بل يكفرون وكلهم متناسي
وقال أيضا:
ظهر الفساد بأرضنا وبلادنا …. قامت بذاك قرامط أشرار
كفروا برب الناس يا ابن محمد …. والكفر شيمتهم فهم كفار
وقال في ترثية والده:
منع الحزن مقلتي أن تناما …. وذرى الدمع من جفوني سجاما
يوم ناديت حي الأحلاف للنصر على …. (مذحج) وناديت (ياما)
ودعونا لنصرنا (الوادعيين) …. فلم ينصروا الأمين الهماما
لا يجيبون صارخا قام يدعو …. يا لهمدان نصروا الإسلاما
فدعونا (ثقيف) كي ينصرونا …. فأجابوا، ولم يكونوا لئاما
نصرونا على العدو وقاموا …. دوننا يدفعون عنا الطغاما
فخرجنا بهم إلى (حار كعب) …. بخيول إلى العدو ترامى

فأتانا الخبير يخبر أن قد …. قتل (الهاشمي) وذاق الحماما
قتلت حارث بن كعب شريفا …. خير من وحد الإله وصاما
قتلوه، فأفحشوا القتل فيه …. حين أضحى لديهم مستضاما
لهف نفسي عليه ما حنت النيب …. وما داعت الحمام الحماما
لهف نفسي عليه لهف لهيف …. لهف حيران لا يلذ مناما
لهف نفسي عليه من لي من بعـ …. ـد ومن للنساء أو لليتامى؟
كان حرزا للمسلمين وكهفا …. ورجاء، ومعقلا، ونظاما
فتولى ذاك النظام فأضحى …. ركن عز الإسلام ميتا رماما
قتل الله (مذحجا) شر قتل …. بأبي جعفر واصلوا غراما
فجزى الله والدي غرف الخلـ …. ـد وأعطاه جنة وسلاما
فلقد كان وافي العهد للـ …. ـه وبالحق والهدى قواما
نصر الدين واستقام على الحـ …. ـق وأوفى بالبيعتين الإماما

فلما وصل إلى الحصن أقبلت همدان إليه يعزونه في أبيه، واعتذروا إليه فيما كان من تخلفهم عن نصرته، والحمد لله والصلاة على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا (ص 382- 383 – 384 السيرة).
وولده علي بن محمد مؤلف سيرة الإمام كذلك أصيب بنجران، وتوفي بخيوان، ورثاه الإمام الهادي إلى الحق رضي الله عنهم، بقوله:
قبر بخيوان حوى ماجدا …. منتخب الآباء عباسي
قبر علي بن أبي جعفر …. من هاشم كالجبل الراسي
من يطعن الطعنة خوارة …. كأنها طعنة جساس
ومن ذريته آل المطاع بصنعاء، ودار عمر سنحان، وغيرهما.

الإعلان