مناظرة الامام القاسم مع الملحد

بسم الله الرحمن الرحيم


قيل: كان وافى مصر رجل من الملحدين فكان يحضر مجالس فقهائها، ومتكلميها، فيسألهم عن مسائل الملحدين، وكان بعضهم يجيب عنها جوابا ركيكا، وبعضهم يزجره ويشتمه، فبلغ خبره القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وكان بمصر متخفيا، في بعض البيوت فبعث صاحب منزله ليحضره عنده، فأحضره، فلما دخل عليه قال له القاسم رضي الله عنه: إنه بلغني أنك تعرضت لنا، وسألت: أهل نحلتنا، عن مسائلك، ترجو أن تصيد أغمارهمبحبائلك، حين رأيت ضعف علمائهم عن القيام بحجج الله، والذب عن دينه، ونطقت على لسان شيطان رجيم لعنه الله:? وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ? [النساء- 118].
فقال الملحد: أما إذا عبت أولئك، وعيرتهم بالجهل فإني سائلك، وممتحنك، فإن أجبت عنهم فأنت زعيمهم، وإلا فأنت إذا مثلهم.
فقال القاسم عليه السلام: سل عما بدا لك، وأحسن الإستماع، وعليك بالنصفة، وإياك والظلم، ومكابرة العيان، ودفع الضرورات، والمعقولات، أجبك عنه، وبالله أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبي ونعم الوكيل.

[إثبات وجود الصانع وحدوث العالم]
فقال الملحد عند ذلك: حدثني ما الدلالة على إنية الصانع ؟
قال القاسم عليه السلام: الدلالة على ذلك قوله في كتابه عز وجل: ? يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد على شيئا وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شئ قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور ? [النساء 5 – 7].
ووجه الدلالة في هذه الآية فهو: كون الإنسان ترابا، ثم نطفة، ثم علقة، لا تخلو هذه الأحوال من خلتين:
إما أن تكون محدثة، أو قديمة، فإن كانت محدثة فهي إذا من أدل الأدلة على وجود إنيته، لعلل:
منها: أن المحدث متعلق في العقل بمحدثه، كما كانت الكتابة متعلقة في العقل بكاتبها، والنظم بناظمه. إذ لا يجوز وجود كتابة لا كاتب لها، ووجود أثر لا مؤثر له في الحس، والعقل.
ومنها: أن المحدث هو ما لم يكن فكون، فهو في حال كونه لا يخلو من أحد أمرين:
إما أن يكون هو كون نفسه، أو غيره كونه !!
فإن كان هو الذي كون نفسه لم يخل أيضا من أحد أمرين:
إما أن يكون كون نفسه وهو معدوم، أو كونها وهو موجود! فإن كان كونها وهو معدوم، فمحال أن يكون المعدوم أوجد نفسه وهو معدوم. وإن كونها وهو موجود، فمحال أن يكون الموجود أوجد نفسه وهو موجود. إذ وجود نفسه قد أغناه عن أن يكونها ثانيا. فإذا بطل هذا ثبت أن الذي كونه غيره، وأنه قديم ليس بمحدث، إذ لو كان محدثا كان حكمه حكم المحدثات.

وإن كانت الأحوال قديمة فذلك يستحيل، لأنا نراها تحدث شيئا بعد شيء في حين واحد، في نفس واحدة، فلو كانت كلها مع اختلافها في أنفسها وأوقاتها قديمة، لكانت الترابية نطفة مضغة دما علقة عظما لحما إنسانا، في حالة واحدة، إذ القديم هو الذي لم يكن، ولم يزل وجوده، وإذا لم يزل وجود هذه الأحوال، كان على ما ذكرت وقلت، من كونه ترابا مضغة لحما عظما إنسانا، في حالة واحدة، إذ الأحوال لم يسبق بعضها بعضا، لأنها قديمة، ولأن كل واحد منها في باب القدم سواء، فإذا استحال وجود هذه الأحوال معا في حين واحد، في حالة واحدة، وثبت أن الترابية سابقة للنطفية، والنطفية سابقة للحال، التي بعدها، صح الحدوث، وانتفى عنها القدم، وإذا صح الحدوث فقد قلنا بديا: إن المحدث متعلق في العقل بمحدثه.
قال الملحد: وما أنكرت أن تكون الأحوال حديثة، وأن العين ـ التي هي الجسم ـ قديمة.
قال القاسم عليه السلام: أنكرت ذلك من حيث لم أره منفكا عن هذه الأحوال بتة، ولا جاز أن ينفك (فلما لم أره منفكا من هذه الأحوال ولا جاز أن ينفك)، كان حكم العين كحكم الأحوال في الحدوث.
قال الملحد: ولم ؟
قال القاسم عليه السلام: من قبل أنها ـ أعني العين ـ إذا كانت قديمة وكانت الأحوال محدثة، فهي لم تزل تحدث فيها الأحوال، وإذا قلت لم تزل تحدث فيها ناقضت، لأن قولك: لم تزل خلاف قولك: تحدث. والكلام إذا اجتمع فيه إثبات شيء ونفيه في حال واحد استحال. وذلك أنها إذا لم تزل تحدث فيها، فقد أثبتها قديمة لم تزل تحدث فيها، وإذا كان هذا هكذا فهي لم تسبق الحدث، فقد صار الحدث قديما، لأنه صفة الجسم الذي هو قديم، وإذا كانت صفته استحال أن تكون صفة القديم الذي لا يخلو منها ولا يزول عنها محدثة، وهذا محال بين الإحالة، لأن فيه تثبيت المحدث قديما، والقديم محدثا.
قال الملحد: فما أنكرت أن تكون هذه الأعيان هي التي فعلت الأحوال ؟

قال القاسم عليه السلام: بمثل ما أنكرت زيادتك الأولى، لأنه لا فرق بين أن تكون هي الفاعلة، وهي لم تسبق فعلها، أو تكون هي قديمة وهي لم تسبق صفاتها، لأن الفاعل سابق لفعله متقدم له، وكذلك القديم الذي لم يزل، سابق للذي لم يكن، لأن في إثبات الفعل له إثبات حدث فعله، وإذا لم يسبق فعله فقد جمعت بينهما في حال واحد، وثبت للشيء الواحد القدم والحدوث في حالة واحدة، وهذا محال بين الإحالة.

[نظرية الهيولى والصورة وحدوث الأشياء من بعضها]
قال [الملحد]: فإني لم أر كون شيء إلا من شيء، فما أنكرت أن تكون الأشياء لم تزل يتكون بعضها من بعض ؟ وما أنكرت أن يكون الشيء الذي هو الأصل قديما ؟
قال القاسم عليه السلام: أنكرت ذلك أشد الإنكار، وذلك أن الشيء الذي هو الأصل لا يخلو من أن يكون فيه من الأحوال والهيئات والصفات مثل ما في فرعه، أو ليس كذلك ؟! فإن كان فيه مثل ما في فرعه، فحكمه في الحدث كحكمه، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى بما فيه كفاية، على أنا نجد الصور والألوان والهيئات والصفات بعد أن لا نجدها فيه، ووجود الشيء بعد عدمه هو أدل الدلالة على حدثه!!
فحدثني عن الصورة من أي أصل حدثت ؟ فإن قلت إنها قديمة أحلت، وذلك أنها لا تخلو من أمور.
أحدها: أن الصورة لو كانت قديمة لكانت في هذا المصور الذي ظهرت فيه الصورة، أو في عنصره الذي تسمونه “هيولى”، فإن كان في هذا المصور بان فساد قولكم ودعواكم، إذ قد نجده بخلاف هذه الصورة، وإن كانت في الذي تسمونه ” هيولى”، فلا بد إذا ظهرت في هذا المصور أن تكون قد انتقلت عنه إلى هذا فإن قلت: انتقلت. أحلت، لأن الأعراض لا يجوز عليها الإنتقال، على أن في الصورة ما يرى بالعيان، فإن كانت منتقلة فما بالها خفيت عند الإنتقال، وظهرت عند اللبث ؟!
وفيه خلة أخرى وهي: أنها لو كانت في الأصل، ثم انتقلت عنه إلى فرعها، فقد جعلت لانتقالها غاية ونهاية، وإذا جعلت لها غاية ونهاية فقد صح حدث الذي انتقلت عنه هذه الأحوال.
فإن قلت: لم تزل تنتقل. كان الكلام عليك في هذا المعنى، كالكلام الذي قدمناه آنفا في ” باب لم تزل تحدث “.

وفيه معنى آخر وهو: أنك إذا جعلت الأشياء في وهمك شيئين، إذا أفردت كل واحد من صاحبه نقص، وانتهى إلى حد ما وقل، وإذا جمعت كل واحد إلى صاحبه زاد، وانتهى إلى حد ما وكثر، أفليس إذا انتهى في حال، وزاد فكثر أو نقص فقل، فالنقص والزيادة يخبران بالنهاية عنه ؟! وإذا ثبت فيه النهاية، ثبت فيه الحدوث!!!

[نظرية الكمون والظهور]
قال الملحد: ما أنكرت أن تكون صورة التمرة والشجرة كامنة في النواة، فلما وجدت ما شاكلها ظهرت ؟!
قال القاسم عليه السلام: إن هذا يوجب التجاهل، وذلك أنا لو تتبعنا أجزاء النواة لم نجد فيها ما زعمت.
وشيء آخر وهو: أنه لو جاز هذا لجاز أن يكون الإنسان كامنة فيه صورة الخنزير، والحمار، والكلب، وإذا كان ذلك كذلك، كان الإنسان إنسانا في الظاهر، كلبا، حمارا، خنزيرا، فيلا، في الباطن !! فإن قلت ذلك، لحقت بأصحاب سوفسطاء . فإن شئت تكلمنا فيه. على أنه قد ظهر من حمقهم لأهل العقول ما يزعهم عن القول بمقالتهم.
قال الملحد: وكيف يجوز أن يكون الإنسان إنسانا في الظاهر، وكلبا حمارا خنزيرا فيلا، في الباطن ؟! قال القاسم عليه السلام: كما جاز أن تكون صورة التمرة والنخلة كامنة في النواة!!
قال الملحد: فإن بين التمرة والنخلة والنواة مشاكلة، و ليس بين الإنسان والكلب مشاكلة.
قال القاسم عليه السلام: لو كان بين التمرة والنخلة والنواة مشاكلة مع اختلاف الصورة، لجاز أن يكون بين الإنسان والكلب مشاكلة!!
قال الملحد: فإن النواة إذا انتقلت من صورتها، انتقلت إلى صورة النخلة.
قال القاسم عليه السلام: وكذلك الإنسان إذ تفرقت أجزاؤه جاز أن يكون كلبا في الطبع والقوة والهيولية عندك، فمهما أتيت به فيه من شيء تريد الفرق بينهما فهو لي عليك، أو مثله.
ووجه آخر وهو: أن الصورة لو كانت في الأصل نفسه، لكان الأصل نفسه هو التمرة، لأن التمرة إنما بانت من سائر المصورات، وعرفت من غيرها بالصورة، فعلى هذا يجب أن يكون أصلها التمرة، وهذا مكابرة العقول، لأنه لو كان هذا هكذا، لكان ظهورها في نواتها أقرب وأشهر وأعم، ولم يستحل وجود صورتين معا في حين واحد.
قال الملحد: إن النواة هي تمرة بالقوة الهيولية، أعني أنها إذا انتقلت لم تنتقل إلا إلى شجرتها، ثم إلى ثمرتها، ثم تعود إلى أصلها، ثم تصير نواة في وسطها.

قال القاسم عليه السلام: لو كان هذا هكذا، لكانت الطبيعة التي هي الأصل تمرة بالقوة الهيولية، إن كنت ممن يقول بالدهر، وإن كنت ثنويا فالنور والظلمة، وما أصلت من أصل فيجب على هذا أن يكون ذلك الأصل تمرة بالقوة، لأنها إذا انتقلت انتقالاتها صارت تمرة، وهذه مكابرة واضحة، وذلك يوجب عليك أن الأصل البحت: تمرة، نواة، خوخة، باذنجانة، لأنه جائز عندك الإنتقال من صورة إلى صورة. وإن كان حكم الأصول في الهيآت خلاف حكم الفروع فسنقول فيه قولا شافيا إن شاء الله.
قال الملحد: إن صححت أن حكم الأصول حكم الفروع، تركت مذهبي، فإنه قد عظمت علي الشبهة في هذا الموضع.
قال القاسم عليه السلام: اعلم أن طرق العلم بالأشياء مختلفة.
فمنها: ما يعرف بالحس.
ومنها: ما يعرف بالنفس.
ومنها: ما يعرف بالعقل.
ومنها: ما يعرف بالظن والحسبان.
فأما الذي يعرف بالحس فطرقه خمس:
سمع، بصر، شم، ذوق، لمس.
فالسمع طريق الأصوات، والكلام.
والبصر طريق الألوان، والهيئات.
والذوق طريق المطعوم.
والشم طريق الأرايح.
واللمس طريق اللين والخشونة.
وما يعرف بالنفس فالخجل، والوجل، والسرور، والحزن، والصبر، والجزع، واللذة، والكراهية، وما أشبه ذلك من التوهم، وغيره.
وأما ما يعرف بالعقل فشيئان:
أحدهما: يدرك ببديهته مثل تحسين الحسن، وتقبيح القبيح، وحسن التفضل، وشكر المنعم، ومثل تقبيح كفر المنعم، والجور، وما يجانسه من علم بدآئه العقول.
والوجه الثاني هو: الإستنباط، والإستدلال، الذي هو نتيجة العقول كمعرفة الصانع، وعلم التعديل، والتجوير، والعلم بحقائق الأشياء.

وأما ما يعرف بالظن والحسبان فهو: القضاء على الشيء، بغير دليل، فهذا ربما يصيب، وربما يخطي، وإنما لخصت لك هذا كله، ليكون عونا لنا فيما تأخر من كلامنا، ويكون أحد المقدمات التي نرجع إليها، فكل شيء من هذه العلوم لا يصاب إلا من طريقه، ولو حاولته من غير طريقه لتعسر عليك، وكنت كمن طلب علم الألوان بالسمع، وعلم الذوق بالعين.
فأما أحوال الأجسام فإن طريق المعرفة بها من جهة البصر، والبصر لا يؤدي إلى الإنسان إلا الأجسام، لأن الأجسام لا يجوز أن تخلو من هذه الصفات، فيتوهمه ويمثله في نفسه خاليا منها، فإذا لم يجز ذلك، ثبت أن الأجسام لا تخلو من هذه الصفات، وأنه لا يكون حكم أصولها إلا كحكم فروعها.

[علة وجود الأشياء وفسادها]
قال الملحد: إنهم يزعمون أن علة كون الأشياء، وفسادها حركات الفلك، وسير الكواكب، وبعضهم يقول: إن علتها تمازج الطبيعتين، أعني النور والظلمة، وبعضهم يقول غير ذلك.
قال القاسم عليه السلام: الدليل على فساد قولهم: قول الله تبارك وتعالى: ? ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر?[النحل:70]، وقوله: ? ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا تعقلون ?[يس:68].
فلو كان علة كونه ما ذكروا لكان الإنسان لا يتوفى في طفوليته، ولا يفسد كونه، مع وجود علة كونه، اللهم إلا أن يقروا بحدوث علة الفساد، فيكونوا حينئذ تاركين لمذهبهم، فإن قالوا: بل علة كونه وفساده قديم. فالشيء إذا كان فاسدا في حال، كان فيها صالحا، إذ عللهما موجودة، ومحال أن تكون عللهما موجودة ويتوفى هذا في الطفولية، ويرد هذا إلى أرذل العمر، وينكس هذا في الخلق. إذ يعمر؛ إن هذا لعمري لعكس العقول.
قال الملحد: لو لزمهم ذلك، للزمك حين زعمت: أن الله علة كون الأشياء وفسادها، مثل ما ألزمت خصومك.
قال القاسم عليه السلام: ولا سواء! وذلك أنا لا نزعم أن الله علة كون الأشياء وفسادها، بل نزعم: إن الله تعالى هو الذي كون الشيء، وأفسده من غير ما اضطرار. والدليل على أن الله عز وجل ليس بعلة فعله ذلك؛ أن أفعاله مختلفة الأحوال، منتقلة الصفات. فلو كان هو العلة لما زال شيء عن صفته، لأنه عز ذكره قديم، والقديم لو كان علة شيء، لم يزل معلوله، كما لم يزل هو في ذاته، وزوال الأشياء عن صفاتها يدل على أن الله عز وجل ليس بعلة ولا معلول.
فقال الملحد حينئذ: بارك الله فيك، وفي من ولدك، فقد أوضحت ما كان ملتبسا علي ؛ وإني سائلك عن غيرها، فإن أجبتني عنها كما أجبت أسلمت.
قال القاسم عليه السلام: إن أسلمت فخيرلك، وإن أصررت فلن يضر الله إصرارك! سل عما بدا لك.

[توحيد الخالق]
قال الملحد: ما الدلالة على أن صانع العالم واحد ؟
قال القاسم عليه السلام: لأنه لو كان أكثر من واحد، لم يخل من أن يكون كل واحد من الصانعين حيا، قادرا. أو ليس كذلك ؟! فإذا كان كل واحد منهما حيا قادرا، لم يكن محالا متى أراد هذا خلق شيء، أن يمنعه الآخر من خلقه لذلك الشيء بعينه، ولو منعه صاحبه من ذلك، كان الممنوع عاجزا، ودلك عجزه على حدثه! وإن تمانعا، وتكافأت قواهما، وقع الفساد، ولم يتم لواحد منهما خلق شيء، ودخل عل كل واحد منهما العجز، إذ لم يقدر كل واحد منهما على مراده. فلما وجدنا العالم منتظما، متسق التدبير، دلنا على أن صانع ذلك ليس باثنين، ولا فوق ذلك.
قال الملحد: ما أنكرت أن يتفقا، ويصطلحا ؟
قال القاسم عليه السلام: إن الإتفاق والإصطلاح يدلان على حدث من تعمدهما، لأنهما لا يتفقان إلا عن ضرورة، والمضطر فمحدث لا محالة.
قال الملحد: إنهم يقولون: إن صانع الخير لا يأتي بالشر أبدا، وكذلك صانع الشر لا يأتي بالخير أبدا .
قال القاسم عليه السلام: إن هذا مكابرة العقول.
قال الملحد: وكيف ذلك ؟
قال القاسم عليه السلام: لأن ذلك يدعو إلى القول بأن أحدا لم يذنب قط، ثم اعتذر من ذنبه؛ وإلى القول بأن إنسانا واحدا لم يصدق ولم يكذب، ولم يضل ولم يهتد، ألا ترى أنهم يزعمون أن انتحالحهم حق، وأنه واجب على الناس الرجوع إلى مذهبهم، فإن كان الشيء الواحد لا يأتي بالخير والشر، فحدثني من يدعون إلى مذهبهم ؟ فإن قالوا: الخير. قيل: فإن الخير لا يضل أبدا. وإن قالوا: الشر. فالشر لا يهتدي أبدا. فليت شعري من هذاالذي يدعونه إلى مذهبهم.
قال الملحد: لعمري لقد ألطفت في الإستخراج على القوم، ولعمري إن هذا مما يقطع شغبهم، ولكنهم يقولون: لما كان في العالم خير وشر، دلنا ذلك على أنهما من أصلين قديمين.

قال القاسم عليه السلام: أما وجود الخير والشر في العالم، فإنا نجده؛ إلا أن هذا يدلنا على أن صانع العالم واحد.
والدليل على ذلك: أن الخير والشر، معتقبان على الخير والشرير، ووجدناهما محدثين، وقد قدمنا الكلام في هذا المعنى بما فيه كفاية، وبينا أن العالم أصله وفرعه محدث، وأن المحدث يقتضي المحدث، (فإن كان حكم فاعله كحكمه، أوجب ذلك حدوث صانع العالم، ويقتضي المحدث)، فإن كان هذا هكذا، فلكل صانع صانع، إلى مالا نهاية له، وقد بينا فساده آنفا.
ووجه آخر وهو: أن الخير والشر ليس اختلافهما يدل على قدمهما، ليس اختلافهما بأعظم من اختلاف الصور والهيئات. وقد قلنا: إن اختلافهما يدل على من خالف بينها، واخترعها مختلفة، فلو كان الخير والشر وسائر المختلفات قديمة، لكان فيها دفع الضرورات.
ووجه آخر: ذلك أنا نرى خيرا لمعنى، وشرا لمعنى آخر، ونرى الخير والشر مجتمعين في حين واحد، فلا يخلوان في حال اجتماعهما من أمور: إما أن يكونا اجتمعا بأنفسهما، أو جمعهما غيرهما، فإن كانا اجتمعا بأنفسهما فمحال، وذلك أنهما ضدان، والضدان لا يجتمعان بأنفسهما، لأنا نشاهد نفورهما، وفرار كل واحد من صاحبه، فإذ فسد ذلك، لم يبق إلا أن جامعا جمعهما.
ووجه آخر وهو: أنه لو كان وجود الخير والشر، دآلا على أن لهما أصلين قديمين، لكان وجود الطبائع الأربع دآلا على أن لها أصولا قديمة، وإذا كان هذا هكذا، دلنا على أن شاهدهم شاهد زور._

[حكمة خلق العالم]
قال الملحد: فإذا لم يكن العالم واحدا قديما، ولا كان مزاج الاثنين، وكان صنعا من صانع قديم؛ فحدثني. لم خلق الله هذا العالم ؟
قال القاسم عليه السلام: إن هذا الكلام فرع من أصل، فإن سلمت لي الأصل كلمتك فيه، وإلا نازعتك في الأصل.
قال الملحد: وما ذلك الأصل ؟
قال القاسم عليه السلام: هو أن تعلم بالدلائل: أن العالم محدث، وأن له محدثا، ثم تعلم: أن محدثه واحد، قديم ؛ ثم تعلم: أنه قادر، حي، حكيم في نفسه، وفعله.
قال الملحد: قد دللت على الصانع، وعلى أنه واحد، فما الدليل على أنه قادر حي حكيم ؟
قال القاسم عليه السلام: الدليل على ذلك أنا وجدنا الفعل المتقن المحكم متعذرا إلا على القادر الحي الحكيم العالم؛ فلما وجدنا الفعل المحكم واقعا، دلنا ذلك على أن صانعه عالم، قادر، حي، حكيم.
قال الملحد: فهل وجدت الفاعل الحكيم القادر سوى الإنسان ؟
قال [القاسم]: لا.
قال [الملحد]: أفتقول إنه إنسان ؟
قال [القاسم]: إني وإن لم أجد إلا إنسانا، فلم يقع الفعل منه لأنه إنسان، إذ قد وجدنا إنسانا تعذر عليه الفعل، فلما وجدناه متعذرا عليه ؛ دلنا ذلك على وجود فاعل ليس بإنسان.
ألا ترى أنا لما قلنا: إنه لا يجوز كون الفعل إلا من قادر حكيم، جائز منه ذلك. فكان قولنا فيه مستمرا ؛ ولما لم يستمر القول في ذلك لم نقل به.
(قال الملحد: قد أبلغت في هذا، فنرجع إن شئت إلى مسألتي.
قال [القاسم]: سل) .
قال [الملحد]: لم خلق الله العالم ؟
قال القاسم عليه السلام: قال الله سبحانه: ? هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ?[الملك:2]، وقال: ? وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ?[الذريات:56]، وقال: ? وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ?[الجاثية:13]. فأخبر أنه خلقنا للعبادة، والإبتلاء، وليبلغ بنا إلى أرفع الدرجات، وأعلى المراتب.
قال الملحد: فما دعاه إلى خلقنا ؟ ألحاجة خلق ؟

قال القاسم عليه السلام: أما قولك: ما دعاه ؟ فمحال.
وذلك أنه لم يزل عالما بلا سهو، ولا غفلة. فقولك: ما دعاه ؟ محال. لأن الدعاء، والتنبيه، والتذكير، إنما يحتاج إليها الغافل؛ فأما الذي لا يجوز أن يغفل، فمحال أن يدعوه شيء إلى شيء ؛ إذ لا غفلة هناك، و لا سهو. والدليل على ذلك: أن الغفلة من الدلالة على الحدوث ؛ وقد قامت الدلالة على أنه قديم. وأما قولك: ألحاجة خلق ؟ فالحاجة أيضا من صفات المحدثين، والقديم يتعالى عنها.
قال الملحد:فلم خلق ؟!
قال القاسم عليه السلام: أما قولك: لم خلق ؟ فقد أجبتك، وذلك في الجوابين السابقين لهذا. لأن قولك ((لم)) ؟ سؤال. وقولي: (( لأن)) إجابة.
قال الملحد: فما وجه الحكمة في خلق العالم، وخلق الممتحنين ؟
قال القاسم عليه السلام: وجه الحكم في ذلك، أنه إحسان، أو داع إلى إحسان، وكل من أحسن، أو دعا إلى إحسان، فهو حكيم فيما نعرفه.
قال الملحد: وكيف يكون حكيما من خلق خلقا فآلمه بأنواع الآلام ؟ وامتحنه بضروب من الإمتحان، أخبرني عن وجه الحكمة في ذلك، من الشاهد ؟
قال القاسم عليه السلام: أما قولك: كيف يكون حكيما، من خلق خلقا، فآلمه بأنواع الآلام ؟ فوجه الحكمة في ذلك من الشاهد، أنا وجدنا من الآلام في الشاهد ما هو داع إلى الإحسان. من ذلك: ضرب المؤدبين للصبيان ومنه الحجامة، والفصد، وشرب الأدوية الكريهة؛ كل ذلك داعية إلى الإحسان، وإلى شيء حسن في العقل، فإذا كان من الآلام في الشاهد ما هو كذلك، فكل ما كونه من قبل الله عز وجل، مثل الموت والمرض والعذاب وغيره، حكمة في الصنع، وصواب في التدبير، إذ كان كل ذلك داعية إلى إحسان.
قال الملحد: ما الدليل على أن ذلك داعية إلى الإحسان ؟

قال القاسم عليه السلام: الدليل على ذلك أنها أفعال الحكيم، وقد صح أن الحكيم إنما يفعل هذه الأشياء، التي هي الترغيب في السلامة والصحة والخير، والترهيب من الغم والشر والسقم. ومن رغب في الخير، فحكيم في ما نعرفه.
وأما قولك: لم امتحن امتحانات، عطب أكثرهم عندها ؟
فإنا نقول في ذلك ولا قوة إلا بالله: إن الله سبحانه إنما امتحانه وأمره ونهيه، داعية له إلى الخير، فمن عطب فمن قبل نفسه عطب، لأنه لم يأتمر بما أمره الله سبحانه ؛ ولا انتهى عما نهاها عنه، ولو كان انتهى عما نهاه عنه، وركب ما أمر به، لكان يؤديه ذلك إلى الفوز العظيم.
فهو: من قبل نفسه عطب؛ لا من قبل الله عز وجل.
ومثل ذلك فيما نعرفه: أن حكيما من حكمائنا لو أعطى عبيدا له دراهم، وقال لهم: اتجروا، فإن ربحتم، ولم تفسدوا، فأنا معطيكم ما يكفيكم، وإن لم تفعلوا عاقبتكم. فأطاعه منهم قوم، وعصاه آخرون، لم ترجع اللائمة عليه، بعصيانهم إياه؛ ولكنها لاحقة بهم، حين عصوه، ولم يخرج دعاء سيدهم إياهم وعطيتهم من الحكمة؛ إذ لم يدعهم به إلا إلى الإحسان، فلما كان ذلك كذلك، كان الله حكيما، بامتحانه وأمره ونهيه.
قال الملحد: إن الله يعلم ما هم صائرون إليه، ونحن لا نعلم ذلك.
قال القاسم عليه السلام: إن الجهل، والعلم، لا يحسن الحسن، ولا يقبح القبيح، وذلك لأنه لو كان حسنا لأن الآمر به يعلم أنه يفعله لكان ذلك قبيحا، إذا كان الأمر منا بما يصير إليه المأمور جاهلا، فلما لم يكن ذلك قبيحا لجهل الآمر منا، لأنه إنما أمر بالحسن ودعا إلى الحسن، وإن كان جاهلا بما يصير إليه المأمور [دل ذلك على أنه لا فرق بين أن يكون الآمر بالحسن، والداعي إلى الحسن، جاهلا بما يصير إليه المأمور]، أو عالما.

وشيء آخر: وهو أنه لو كان الإمتحان قبيحا، إذا علم أنه يعصى، لكان لا شيء أقبح من إعطاء العقل، لأنه إنما يعصى عند وجوده، ويستحق الذم والمدح به، فلما كان إعطاء العقل عند الأمم كلها موحدها وملحدها حسنا، دل ذلك على أن الإمتحان والخلق والأمر بالحسن كله حسن، علم أنه يعصي أو يطيع.
قال الملحد: فلم مزج الخير بالشر ولم صار واحد غنيا، وواحد فقيرا، والآخر قبيحا، والآخر حسنا ؟
قال القاسم عليه السلام: إن هذه الدار دار امتحان، ودار ابتلاء، وحقيقة الإمتحان فهو: أن يخلق فيه، أو يأمره بشيء يثقل على طباعه ؛ فينظر هل يطيع، أم لا يطيع ؟
ولو خلق الله ما هو خفيف على طباعه، ثم أمره بالخفيف لكان ذلك لذة له، وليس بامتحان. فلما كانت هذه الدار دار امتحان، كان الواجب في صواب التدبير، أن يمزج الخير بالشر، والنفع بالضر، والمكروه بالمحبوب، والحسنة بالسيئة، والكريه المنظر بالحسن المنظر، إذ كانت الدار دار امتحان ؛ لأنه لو كان كله محبوبا كان دار الثواب، ولو كان كله مكروها، كان دار العقاب، ودار الثواب والعقاب هذه صفتها.
واعلم أنه لو لم تعرف علل ذلك لكان جائزا، وذلك أنه في بدي الأمر، إذا أقمت الدلالة على أنه حكيم في نفسه وفعله، ثم دللت على أن الكل من أفعاله حكمة، استغنيت عن معرفة علله.
ومثال ذلك من الشاهد: أنا لو هجمنا على آلات من آلات الصانع، فرأينا اعوجاج المعوجات، واستواء المستويات، وصغر بعضها، وكبر بعضها، وغلظ بعضها، ورقة بعضها، فحكمنا أن صانعها غير حكيم، لكنا جاهلين بالحكمة، نضع الحكمة في غير موضعها. بل حينئذ الواجب علينا أن نسلم للحكماء حكمتهم، ونعرف أنهم لا يفعلون شيئا من ذلك إلا لضرب من الحكمة يعرفونه، ونعلم بأن المعوج والمستوي، وكل زوج منها يصلح لعمل لا يصلح له الآخر، فحينئذ وضعنا الحكمة في موضعها. فاعرف ذلك وتبينه، تجده كما قلنا إن شاء الله تعالى.

فلما كانت أفعال الله كلها إحسانا، أو داعية إلى الإحسان، كان تبارك وتعالى بفعلها كلها حكيما، إذ كل ذلك حسن في العقل.
فإن قلت: لم فعل الحسن في العقل ؟
قيل لك: يفعل الحسن لحسنه، ولو لم يفعل الحسن في العقل لحسنه، لكان لا يترك القبيح لقبحه في العقل، وكفى بهذا القول قبحا.

[إرسال الرسل وحكمة التشريع]
قال الملحد: لقد أبلغت وقد بقيت لي مسائل.
قال القاسم عليه السلام: سل.
قال الملحد: ما الدليل على أن الصانع له رسول ؟
قال القاسم عليه السلام: الدليل على ذلك أن الصانع حكيم، محسن إلى خلقه، وفي العقل أن شكر المنعم واجب، فلما كان هذا في عقولنا واجبا، وكان الله حكيما منعما على خلقه ؛ كان من كمال النعمة أن أرسل إليهم الرسل، مع دلائل اضطرت العقول إليها، ليبين لهم كيفية شكره، لأن كيفية شكره ليس مما يعلم بالعقل، ولا بالنفس، ولا بالحس، ولا بالظن، وإن كان في العقل جوازه. فحينئذ أقام لهم معهم دلائل ومعجزات، دل بها على صدقهم.
قال الملحد: كأنك تقول: إن شرائع الأنبياء خارجة عن العقول، إذ قلت: لا يعلم كيفيتها بها.
قال القاسم عليه السلام: أما قولك: إن شرائع الرسل خارجة عن العقول إذ ليس فيها كيفيتها. فإني لم أقل لك ليس فيها كيفيتها بتة، بل اشترطت لك فقلت لك: إنه وإن لم يكن فيها كيفيتها ففيها جواز كونها.
قال الملحد: وكيف ذلك ؟
قال القاسم عليه السلام: هو مثل ما تعرفه في الشاهد، وذلك لو أن سيدا أمر عبده ببناء دار، أو قطع شجرة، أو إعطاء عبد الله، أو ضرب زيد، فإنه ليس في العقل أن السيد يأمر به، فإذا أمر به كان في العقل أن الإئتمار به حسن، وأن تركه قبيح، إذا كانت لأمر سيده عاقبة محمودة، ومرجع نفع إلى العبد، فالعقل يجوز الأمر بكل شيء على حياله، ولا يوجب شيئا من ذلك دون شيء، إذا كان ذلك الأمر مما ينتقل حاله في العقل، وذلك أنه قد يكون المشي إلى موضع ما حسنا في العقل، إذا كان للمشي معنى حسن، فأما اللواتي يدرك حكمها في العقل، فقد أدرك بأن الآمر بها لا يأمره إلا بما هو حسن، ولا ينهى إلا عن ما هو قبيح عنده.
قال الملحد: فحدثني عن الصلاة والصيام وغيرهما من الشرائع، هل له أصل في العقل تفرع هذا منه ؟

قال القاسم عليه السلام: أجل، قد أخبرتك به آنفا، وهو كالأمر بالمشي إلى موضع ما، وكضرب زيد، وإعطاء عبد الله، ليس له أصل في العقل، أكثر من الإئتمار لأمر الحكيم، ووجه الحكمة فيه أن الآمر إنما يأمر به لينظر هل يأتمر به المأمور فيجازيه لذلك ؟ لا سيما إذا كان الآمر مستغنيا، غير محتاج إلى ما يأمر به، وإنما يأمرهم ليمتحنهم، وليظهر بذلك أعمالهم، فإن الأمر به حسن، وعلى ذلك سبيل الشرائع كلها.
قال الملحد: خبرني عن كيفية معجزاتهم.
قال القاسم عليه السلام: هو قلب العادات، وأن لا يترك العادات جارية على مجراها، فإذا جاء أحدهم وقال له قومه: ما الدلالة على صدقك، قال: الدليل أن الله يقلب عاداتهم، في كذا، وكذا، إلى كذا وكذا، فحينئذ يعرفون صدقه، ويضطرون إلى قبول قوله، وهذه سبيل المعجزات كلها، وبمثل ذلك يفرق بين النبي والمتنبي، وبين الصادق والكاذب.

[الحكمة من الموت والبعث]
قال الملحد: فإنه بقي في قلبي شبهة، فأحب أن تقلعها بحسن رأيك ونظرك.
قال القاسم عليه السلام: هاتها لله أبوك !
قال الملحد: أخبرني عن الله عز وجل، لم يميت الإنسان، ويصيره ترابا، بعد أن جعله ينطق بغرائب الحكمة، وبعد هذه الصورة العجيبة البديعة ؟! ولم يفني العالم كله ؟! أرأيت لو أن إنسانا بنى بناء فنقضه لا لمعنى، هل يكون حكيما ؟!
قال القاسم عليه السلام: ليس الأمر كما ظننته، أرأيت لو أن إنسانا بنى بناء للشتاء فلما جاء وقت الصيف نقضه وبناه للصيف، هل يكون حكيما ؟
قال [الملحد]: نعم.
قال [القاسم] عليه السلام: ولم ؟
قال [الملحد]: لأن الذي اتخذه للشتاء، لا يصلح للصيف، وكذلك الذي اتخذه للصيف لا يصلح للشتاء.
قال القاسم عليه السلام: وكذلك الله عز وجل، خلق الدنيا وما فيها للإبتلاء، فإذا انتهى إلى أجله وحينه، أفناها، ويعيدها ثانيا ? ليجزي الذين اساءوا بما علموا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ? [النجم:31]. ولا يكون ذلك خروجا من الحكمة، بل الحكمة أن لا يضيع الثواب والعقاب.
قال الملحد: إن التوحيد، والتعديل، والرسل، قد تكلم فيه ناس من أهل الملل وكل يشك في الميت، هل يحيى أم لا ؟ وكل يجيء في ذلك بشيء، فإن دللت على ثباته، وكيفيته، لم تبق لي مسألة، وحينئذ آمنت بربي.
قال القاسم عليه السلام: أما الدلالة على ثباتها فإني وجدت الله تبارك وتعالى حكيما، قد امتحن خلقه، وأمرهم، ونهاهم، وكان قول من يقول بإزالة الإمتحان، داعياإلى الإهمال، والإهمال داع إلى أن الله غير حكيم، وإذا جاز أن يكون العالم قديما. لأنه لا فرق بين أن يفعل من ليس بحكيم هذا الصنع العجيب، وبين أن يقع فعل لا من فاعل، والأشياء موجودة، فتكون قديمة أزلية، لا فاعل لها.

ووجدت هذا القول داعيا إلى التجاهل، فلما كان ذلك كذلك، صح أن الله حكيم، والحكيم لا يهمل خلقه، وإذا لم يهمل خلقه، لم يكن بد من أمر ونهي، ولم يكن بد من مؤتمر، وغير مؤتمر، وكان من حكم العقل أن يفرق بين الولي، والعدو، ووجدنا أوليآءه وأعدآءه مستوية الأحوال في الدنيا، لأنه كما أن في الأعداء من هو موسر صحيح، ففيهم من هو معسر مريض، وكذلك الأولياء، فلما كانت في الدنيا أحوالهم مستوية، ولم يكن بد من التفرقة بينهما، صح أن دارا أخرى فيها يفرق بينهم، وفيها ينشرون، إذ قد وجدت هذه الحال قد اشتملت الكل، الولي والعدو. وذلك قوله عز وجل:? أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ? [ص:28].
وأما قولك: أخبرني عن كيفيتها ؟ فإن الله عز وجل جعل الروح لجسد الإنسان حياة له، كالأرض إذا اهتزت بالماء، وتحركت بالنبات، كذلك الروح إذا صار في الإنسان، صار حيا متحركا، إذا امتزج أحدهما بصاحبه.
قال الملحد: وكيف يمتزج الروح بالبدن وقد صار ترابا ؟
قال القاسم عليه السلام: وكيف يمتزج الماء بالأرض الهامدة ؟ إذا صارت قاحلة يابسة.
قال الملحد: هو أن يمطر عليها، أو يجري فيها فيتصل أجزاء الأرض بأجزاء الماء، بالمشاكلة التي بينهما، فعندها تهتز وتتحرك.
قال القاسم عليه السلام: وكذلك الروح، يرسل إلى ذلك التراب، فيمآسه ويمازجه، فحينئذ يحيى الإنسان ويتحرك. أولا ترى إلى بدء خلق الإنسان، كيف كان ؟! أو ليس تعلم أنه كان ترابا، فلما جمع الله بينه وبين روحه صار إنسانا، فأصل خلق الإنسان يدلك على آخره، أولا تسمع قوله سبحانه: ? قل يحييها الذين أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم، الذين جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ? [يس: 79 –80].
قال الملحد: إنه ليس بين الروح والتراب مشاكلة، فيما يعرف!.
قال القاسم عليه السلام: فهل تعلم بين النار والشجر الأخضر مشاكلة ؟

قال الملحد: نعم. وهي أنها مجموعة من الطبائع الأربع إحداهن النار.
قال القاسم عليه السلام: الله أكبر هل تعلم بين النار وبين ثلاثتها مشاكلة ؟
قال الملحد: لا.
قال القاسم عليه السلام: فكيف اجتمعن ؟ إنه لما جاز أن تجتمع النار مع الماء، والأرض والأهوية، بلا مشاكلة بينهن جاز للروح مثل ذلك.
فقال الملحد عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق، وتعست أمة ضلت عن مثلك. وأسلم وحسن إسلامه، وكان يختلف إلى الإمام أمير المؤمنين القاسم عليه السلام، ويتعلم منه شرائع الإسلام.
تمت المناظرة وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s