بسم الله الرّحمن الرّحيم
البَيان الشّافي لعلاقَة زيديّة اليمَن بالجاروديّة
صورة
الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين ، سيدّنا محمدّ الخاتَم الأمين ، و على آله الطّيبين الطّاهرين ، سفنُ النّجا وعلاماتُ الاهتدا ، ورضوانه على الصّحابَة المُتّقين ، والتّابعين لهم بخيرٍ وإحسانٍ إلى يومِ الدّين .
وبعد :
فإنّه لا أشدّ من الظّلم ، ولا أشدّ من التّدليسِ فرعٌ مِن الظّلم ، لا سيّما لمَن سخّر قلَمَه لتناولِ ما مِن شأنّه الارتباطُ بالشرّيعَة المحمديّة أصولاً وفروعاً ، الله نسألُ أن يُجنّبناَ وإيّاكم المَهالِكَ و المَزالِق ، ((وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ)) [آل عمران:183] ، وذلكَ أنّا وقَفنا على موضوعٍ سيفُهُ مُصلَتٌ على أهل الحقّ والاتّباع المحمدّي العلويّ الفاطميّ الحسنيّ والحسينيّ ، بما مِن شأنِه التّنفير والتّدليس عليهِم وعلى عقائدهِم واتّباعهِم ومنهجهِم في التلقّي والتأصيل ، فالكلامُ حولَ فرقَة الجاروديّة وعلاقَتها بالزيديّة من جهَة الانتماء والاعتزَاء والتأثّر والتّقليد ، فالكثيرُ من أهل عصرِناَ وسابقيهِم خلطوا الزيدية ونحصّ زيديّة اليمَن بالذّكر بالجاروديّة لمّا ظهرتَ الرّافضَة الجعفريّة على السّاحة باشتدادِ الدّول ، وظهرَ لها أتباعٌ في اليمَن ، فلمّا كانَ كثيرٌ من الباحثين لا يعرفونَ بحكُم الانتشَار في هذا الزّمان إلاّ الجعفريّة من الشيعَة فإنّهم قاموا يخلطونَ بينهُم وبينَ غيرهِم من فِرقَ الشيعَة ، فصاروا ينظرونَ للجميع بمنظارِ الرّفض والتعدّي على الصّحابَة بالسبّ والبراءة ، وهذه لعمري نظرةٌ جائرَة ، وميزانٌ بَخس ، يلجأُ إليه غير أولي التبريز والنّظر من العلمَاء والباحثين ، وإلاّ فمَا علاقَة الزيديّة المَرضيّة أعلا الله مقامَها ومقامُ أتباعهَا بالرّفض والترفّض والسبّ والبُهتان والله المُستعان ، قالوا : إنّ الجاروديّة من الزيديّة ، والجاروديّة مشهورٌ من عقائِدَها السبّ للأصحَاب . قُلنا : وكيفَ ظهرَ لكُم أنّ زيديّة اليمَن مِن هَؤلاء يا أعلام؟! هذه مُقدّمِةٌ ومدخلٌ لموضوعِ هذه الرّسالة التي نسألُ الله أن يعيَها أهلُ العِلم و طُلابِه ، وأن يكونَ طلابّه أدلاّءُ لأهل الجَهل والعصبيّة لإزالَة بعض المفاهيم المغلوطَة حول هذه المسألَة المهمّة في بابِهَا خصوصاً في مثل هذا العَصر الذي أصبحَ هاجسُ الرّفض وتوسّع مذهب أصحابِه يُشكّل هاجساً وعبئاً نفسيّاً على السلفيّة السنيّة ، مع إيمانِنا بأنّ البنَاء السّليم لن تُؤتَى قواعِده بفِعل وقوعِ البَعوض ، وهذا فأوانُ الابتداء في أصلِ البحثِ الذي قسمّناه إلى ثلاثَة مباحِث ، المبحث الأوّل : التعريفُ بالجاروديّة وعقائدَها التي حُكيَت عنهَا . المبحث الثّاني : التعريفُ بالجاروديّة المذمومَة عند الزيدية ، والجاروديّة الممدوحَة . المبحث الثّالث : : الانتماء والإعتزاء الحقيقي للزيدية ، أساسُه ومَنبَعه ، فنقولُ متّكلين على الله تعالى:
المَبحث الأوّل : التعريفُ بالجاروديّة وعقائدَها التي حُكيَت عنهَا :
اتّفقَ أهل النّقل على أنّ الجاروديّة نسبَة إلى أبي الجارود زياد بن المُنذر العَبديّ الهمداني الأعمَى ، عاصرَ وعايشَ وناصرَ الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) ، وكانَ رسولَه إلى أبي حنيفَة النّعمان بن ثابِت إمام المَذهَب[1] ، وأحدُ المُنادين على مآذنِ الكوفَة بشعارِ الإمام زيد بن علي (ع) دعوةً للفلاح ونُصرَةً للحقّ وأهلِه[2] ، وكانَ يُحدّث وينقلُ أخبَار الإمام (ع) في تنقّلاتِه ودروسِه وفي ساحَة الحَرب فهُو صاحبُه والمُلازمُ له في الوقتِ الذي لم يُجب دَعوتَه (ع) كثيرٌ من الأعلام ، ولم يعكُف على علومِه كثيرٌ من الحفّاظ ، زُهداً أو تخاذلاً بحالِ هذا الإمام ، الله أعلَم بحالهِم وعُذرهِم في عدَم إجابَة دعوَتِه الجامِعَة ، نعم! ولأبي الجارود زياد بن المُنذر رواية واسعَة عن الإمام الباقر محمد بن علي (ع) ، وكذلكَ روى عن الإمام شيبَة الحَمد عبدالله بن الحسن بن الحسن (ع) .
العقائدُ التي حُكيَت عن أبي الجَارود ، والجاروديّة :
وهُنا اعلمَ أخي باركَ الله فيكَ أنّ هُناك عقائداً حُكيَت عن الجاروديّة كفرقَة وجماعَة ، وهُناكَ عقائداً حُكيَت عن أبي الجارود زياد بن المنذر نفسه ونُسبَت إليهِ مُباشرةً ، وهُناك فرقٌ في النّسبَة لأبي الجارود ، فالمعلومُ أنّ الأتبَاع قد يدينونَ الله بما لا يدينُه من انتسبُوا إليه واشتُهروا بالنّسبَة إليه ، تماماً كمَن يُبرّئ الإمام أحمد بن حنبل من عقائد أدعياء السلفيّة وأتباع ابن تيميّة كذَا تقولُه الأشاعرَة وغيرُهم ، وكما يُبرّئ الزيدية الإمام جعفر بن محمّد (ع) من عقائد الجعفريّة التي جعلوهاَ لهُم ديناً ، وكذلك يَقولُ المُخالفُ مع الزيديّة في انتسابهِم لإمامهم زيد بن علي (ع) ، إذاً هُنا أمرٌ واجبٌ ملاحظته وهُو أنّ العقائد التي نُسبَت إلى الفرقَة الجاروديّة ليس بالضّرورة أن تكونَ عقيدَة ثابتَة لأبي الجارود زياد بن المُنذر ، لأنّ أتباعَه قد يكونُ زادوا أو نقّصوا وهُو فلا يلزمُه قولُهم ، وهُنا سنذكرُ العقائد التي احتوتَها الكُتب والمصادر الإسلامية عن اعتقاداتَ الفرقَة الجاروديّة ، وعن اعتقادَات أبي الجارود نفسَه ، فمنهَا :
أ- قالوا : كان أبو الجارود زياد بن المُنذر يقولُ بالرّفض :
1- قال الذهبي عن أبي الجارود : ((رافضيّ مُتّهم ، له أتباعٌ هُم الجاروديّة))[3] .
2- قال ابن حجر العسقلاني : ((رافضيّ))[4] .
3- قال أبو حاتم : ((كان رافضياً))[5] .
4- قال ابن عدي : ((وهُو من المَعدودين من أهل الكوفَة الغَالِين))[6] .
ب- قالوا : كان أبو الجارود زيادُ بن المُنذر يقولُ بتكفير المشائخ ، وأنّ الإمام علي (ع) إمامٌ بالوصفِ دون التسميَة :
يُريدُون بهذا القَول ما قالَه أبو الحسَن الأشعريّ في مقالات الإسلاميّين كأوّل من حرّر هذه المقالةَ على الجاروديّة بدون نسبَة مُباشرَة إلى أبي الجارود : ((فَمِنهُم الجاروديّة ، أصحاب أبي الجارود ، وإنّما سُمّوا جَاروديّة لأنّهم قَالوا بقول أبي الجارود ، يَزعمون أنّ النّبي (ص) نصّ عَلى عَلي بن أبى طَالب بالوَصف لا بالتّسميَة ، فكان هُو الإمام مِن بَعدِه ، وأنّ النّاس ضَلّوا وكَفَروا بِتركِهم الاقتداء بهِ بَعد الرّسول (ص) ، ثمّ الحسَن مِن بَعد علي هُو الإمام ، ثمّ الحسين هُو الإمَام مِن بَعد الحسَن))[7] ، وإن كان النّوبختي في فِرقَ الشيعَة كأوّل من تكلّم عن الجاروديّة كفرقَة إسلاميّة لم يذكُر النّص والوَصف من عقيدَة الجاروديّة وأبي الجارود ، قال : ((وَفِرقة مِنهم يُسمَّون الجاروديّة ، قالوا: بِتفضيل عَلي (ع) ، ولَم يروا مَقامه يَجوز لأحدٍ سِواه ، وزَعَمُوا أنَّ مَن دَفع عَليّاً عَن هذا المكَان فَهو كَافِر ، وأنّ الأمّة كَفرَت وَضَلّت فِي تَركِهَا بَيعَته ، وجَعلوا الإمامَة بَعده فِي الحسَن بن عَلي (ع) ، ثمّ فِي الحسين (ع) ، ثمّ هِيَ شُورَى بَين أولادِهِمَا فمَن خَرَج مِنهُم مُستحِقّاً للإمَامَة فَهو الإمَام))[8] . نعم! وهذان المُؤلِّفَان ، نعني النّوبختي والأشعري فيما وقفنَا عليه هُما أوّل من حرّر هذه المقالةَ على أبي الجارود وأتباعهِ بهذا الوصف وتبِعَهم عليه أهل النّقل كالبغدادي والشهرستاني وغيرهُم حتّى أنّك تجدهُم ينقلونَ هذه العبارات بتمامهَا في كُتبهِم .
ج- قالوا : كانت الجاروديّة تقولُ بغيبَة الإمام محمد بن عبدالله النّفس الزكيّة :
قال أبو الحسن الأشعريّ : ((فَزعمَت فِرقةٌ أنّ محمّد بن عبد الله بن الحسَن لَم يَمُت وأنّه يَخرُج ويَغلِب)) ، ونقلَ هذا غيرُه[9] .
د- قالوا : كانت الجاروديّة تقولُ بغيبَة الإمام محمد بن القاسِم الطّالقاني :
قال أبو الحسن الأشعريّ : ((وَفرقة أخرَى زَعمَت أنّ محمّد بن القاسم صَاحب الطّالقان حيّ لَم يَمُت وأنّه يَخرج ويَغلِب)) ، ونقلَ هذا غيرُه[10] .
هـ- قالوا : كانت الجاروديّة تقولُ بغيبَة الإمام يحيى بن عمر صاحبُ الكوفة :
قال أبو الحسن الأشعريّ : ((وفِرقة قَالت مِثل ذلك في يَحيى بن عُمَر صَاحِب الكوفَة)) ، ونقلَ هذا غيرُه[11] .
و- قالوا : كانت الجاروديّة تقولُ بعقيدَة قريبَة من التناسخ وتولّد أرواح الأئمّة متولّدة من نور الله عزّ وجل :
قال أبو الحسن محمّد بن أحمد الملطي الشّافعيّ : ((الفِرقة الحاديَة عَشرة هُم الجاروديّة: وَهُم بَين الغالية والتناسخيّة لا يُفصِحون بالغلوّ ويَقولون إنّ الله عَزّ وجلّ نُورٌ ، وأرَواح الأئمة والأنبياء مِنه مُتولِّدَة ، ويَنحون نَحو التناسخ ولا يقولون بانتقال الرّوح مِن جسد إنسان إلى جَسَد غَير إنسَان ، بَل يَقولون بانتقال الرّوح مِن جَسدِ إنسان رديء إلى جَسَد إنسانِ مُؤلم مُمرض فَتُعذَّب فِيه مُدّة بما عَمِل مِن الشرّ والفسَاد ، ثمّ تُنقل إلى جسد إنسان مُتنعّم فَتَتنعّم فيه طول مَا بقيت في الجسَد الأوّل ، وزَعمُوا أن هذا يُسمى الكور ، فَيكون مُعذَّبا أو مُقيّداً فِي جَسدٍ هَرِم أو ممرّض أو مُسقم ، أو يكون مُنعّما في جسد شَابٍ حَسن مُتلذِّذ))[12] .
ز- قالوا : كانت الجاروديّة تقولُ بعقيدَة الرّجعَة ، ويُحلّون المُتعَة :
قال المزيّ : ((وبعضُهم يرَى الرّجعَة ، ويُحلّ المُتعَة))[13] .
نعم ! فالمتأمّل لهذه العقائد المنسوبَة إلى فرقَة الجاروديّة من الزيديّة يظهرُ له قوّة ما صدّرناه قريباً من عدم ضرورةَ إلصاق عقائد أتباع أبي الجارود بأبي الجارود فقد يبتدعُ المُتأخّرون بما ليسَ عليه من انتسبُوا إليه ، نذكرُ هذا لكي لا يلتبس على العامّة ولا نقولُ أهل النّظر ذلكَ فينسبونَ الجميع إلى أبي الجارود لمجرّد التبعيّة ، وإلاّ فالطّالقاني ويحيى بن عمر وعقيدَة التّناسخ وإطلاقها متأخّرَة عن أبي الجارود زياد بن المنذر الهمداني ، ثمّ إنّ المقام ليسَ مقام بسطٍ لمُناقشَة هذه الأقوال بتفصيلاتها العقائديّة وتحرير صحّة نسبتها ففي بعضها مبالغَات ظاهرَة كالقول بعقيدَة انتقال الأراوح التي ذكرَها الملطيّ الشافعيّ ، وكذلك القولُ بالمُتعَة فهي مُستهجنَة مُستبعدَة ، وإنّما المقام مقام تبيين علاقَة زيديّة اليمَن بالجاروديّة التي ذكرَتها كُتب المِلل والنِّحل والتّراجم ، فواجبٌ على الباحث من هذه السّطور أن يتأمّل أنّه وإن أُطلِق القولُ على زيديّة اليمَن بالجاروديّة فإنّ هذا يعني التّفريق والسّؤال : أيّ جاروديّة من هذه الجاروديّات يقولُ بقولِه أهل اليمَن ؟! ثمّ هل يوجدُ عند زيدية اليمَن تعريفٌ وسِماتٌ للجاروديّة بغيرِ ما ذُكِر ؟! ، فلربّما أنّ زيديّة اليمَن لا تنظرُ لتعريف الجاروديّة بواحِدَةٍ من هذه التعريفَات فيكونُ النّاس قد خلطوا الحابِلَ بالنّابِل فما حقّقوا معنى الجاروديّة حتى يُحسِنوا الحُكم على الزيديّة من الأساس !! ، هذا سنتناولهُ بإذن الله تعالى في المبحث الثّاني القريب .
المبحث الثّاني : التعريفُ بالجاروديّة المذمومَة عند الزيدية ، والجاروديّة الممدوحَة .
في هذا المَبحث سنتناولُ بإذن الله تعالى نظرَة زيديّة اليمَن إلى الجاروديّة ، و ما هُو المقصودُ من الجاروديّة بإطلاقِهم ، فنظرَة زيديّة اليمَن إلى الجاروديّة اختلفَت حسبَ الاعتقادَات المَنسوبَة إلى الجاروديّة كفرقَة تكلّمَت عنها كُتب العامّة والخاصّة من المُصنّفين أصحاب المِلَل والنِّحَل ، فتجدُ بعض الزيديّة يمتدحُ الجاروديّة باعتبارِ أنّها فرقَة لا تسبّ الصّحابَة وتقولُ بعقائد الزيدية الفاطميّة الأصيلَة التي عليهَا زيديّة اليمَن ، وتجدُ البعض الآخَر يذمّ الجاروديّة باعتبارهَا فرقَة تُكفّر الصّحابَة وتبتعدُ في نظرتَها عن العقيدَة الزيدية الفاطميّة الأصيلَة ، إذاً مِنَ المُهمّ هُنا أن نعرفَ كيفَ تنظُر الزيدية إلى الجاروديّة باعتبارِ أهمّ وأبرَز الأقوال التي تُنسبُ إليهَا ، فنُقسِّمُ الكلامَ إلى قسمَين اثنين :
القِسم الأوّل : نظرَة زيديّة اليمَن إلى الجاروديّة الممدوحَة :
فنجدُ أنّ أوّل[14] مَن تكلَّم عن الجاروديّة من أئمّة أهل البيت (ع) ، فيما وقفنَا عليه كفرقَة مُستقلَّة من الزيدية الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ع) في القرن السّابع الهجري ، فقال (ع) : ((الزيديّة عَلى الحقيقَة هُم الجاروديّة ولا نَعلم فِي الأئمّة (ع) بَعد زيد بن علي (ع) مَنْ لَيسَ بِجَارُوديّ ، وأكثرُ مَا نُقِل وَصحّ عَن السّلف هُو مَا قلنا -يَعني التوقّف- عَلى تَلفيقٍ واجتهَاد، وإن كَانَ الطّعن والسبّ مِن بَعض الجاروديّة ظَاهِراً، وإنمّا هَذا رَأي المحصِّلين مِنهُم))[15] ، ولنَا مع هذا النّص خمس وقفَات يترتّب بعضها على بعض.
الوقفَة الأولَى : أنّ الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) مِن القائلين بالتوقّف في المشائخ فلا يسبّهم ولا يشتمهُم ، و أخبرَ أنّ هذا هُو المشهورُ من فِعل الإمام علي بن أبي طالب (ع) ، وابنيه الحَسن والحسين (ع) ، فقال (ع) مُجيباً عن مسألَة تقدّم المشائخ على أمير المؤمنين (ع) : ((إنّ الصّحَابَة عِندَنا أفضلُ بَعد الأئمّة (ع) قبل إحدَاثِهِم، وبَعد الإحداث لنَا أئمّة نَرجعُ إليهِم فِي أمورِ دِيننا، ونُقدِمُ حَيثُ أقدَمُوا ونُحجِم حَيث أحجَمُوا، وَهُم عَليٌّ وَولَداه (ع) ، والحادِث عَليهِم وغَضبنا فِيهِم، وَلَم نَعلم مِن أحدٍ مِنهم سبّ أحداً مِن الصّحَابَة ولا لَعنه ولا شتمَه لا في مُدّة حَياتِهم ولا بَعد وَفَاتِهم))[16] .
الوقفة الثانيَة : أنّ الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ع) اعتبرَ الجاروديّة صفَة مَدح ونسبَها إلى أئمّة أهل البيت (ع) من بعد زيد بن علي (ع) حتّى زمانِه ، وأخبرَ عن موقفِ هذه الجاروديّة التي امتدحَها من الصحابَة ، فقال : ((وأكثرُ مَا نُقِل وَصحّ عَن السّلف هُو مَا قلنا -يَعني التوقّف- عَلى تَلفيقٍ واجتهَاد)) ، يعني أنّ هؤلاء السّلف الذي وصفَهم الإمام بالجاروديّة هُم من القائلين بالتوّقف ليسوا بقائلين بالتّكفير أو التّفسيق كما هُو المَشهور عن حال الجاروديّة ، فيأتي مَن ليسَ له همّة عن التّفتيش عن مقاصِد الأئمّة فيقولُ انظروا هذا الإمام المنصور بالله يمتدحُ الجاروديّة وينسبُ جميع أئمّة الزيدية إلى الجاروديّة ، وهذا يعني أنّه يُثبتُ أنّ أئمّة الزيدية من القائلين بتكفير الصّحابَة أو المُفسِّقين لهم ، وهذا الوهُم هُو ما لأجله حرّرنا هذه الرّسالَة المُتواضِعَة ، فإنّ الإمام عبدالله بن حمزة (ع) تكلّم عن الجاروديّة باعتبار المَدح والمُماثلَة لاعتقادِ أئمّة أهل البيت (ع) ، باعتبار قولهِم بالتوقّف عن سبّ الصّحابَة وهذا القَول مشهورٌ عن الإمام (ع) ، أيضاً الجاروديّة مشهورٌ عنهُم القولُ بالنّص الخفيّ دونَ الجليّ كما أثبتَه العامّة في مؤلّفاتهِم من القَول بإمامة أمير المؤمنين (ع) بالوصف دون التسميَة وإن كانوا فرّعوا من هذا الاعتقاد القول بالتكفير والتفسيق وهُو أليقُ بأن يكونَ تابعاً لمَن يقول بالنّص الجليّ كقول الإماميّة من الشيعَة ، حتّى أن ابن تيمية قال : ((كمَا أنَّ الشِيعَة القَائلين بالنّص عَلى عَليٍّ مِنهم مَن يَقول بالنّص الجَلي كمَا تَقوله الإمَاميّة ، ومِنهُم مَن يَقول بالنّص الخفيّ كمَا تَقوله الجاروديّة مِنَ الزيديّة))[17] ، وهذا القَول (النّص الخفيّ) هُو اللائق بالجاروديّة باعتبار ما اشتُهرِ عنهُم من القول بالنّص على أمير المؤمنين بالوصف دون التسميَة لأنّ هذا لازمُه النّص الخفيّ لا النّص الجليّ ، وعندي أنّ مَن استنبطَ عن الجاروديّة القَول بالنّص الجليّ إنّما كان دافعُ ذلكَ هُو ما اشتهرَ عنهُم من التّكفير والتفسيق للمشائخ لمّا كانَ هذا الأخير لازمُ النّص الجليّ على مذهب الإماميّة .
الوقفَة الثّالثة : أنّ الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) كانَ ممّن يقولُ بالنّص الخفي على إمامة أمير المؤمنين (ع) ، وهذا مع امتداحِه للجاروديّة باعتبار التوقّف يُرجّح أنّه كان يُريدُ بامتداحِه الجاروديّة القائلة بالنّص الخفيّ ، لا الجاروديّة التي اشتُهِر عنها القَول بالنّص الجليّ على مذهب الإماميّة كما قال العلاّمة يحيى بن الحسين المؤرّخ : ((لأنّ الجاروديّة يُوافقون الرّافضة في القَول بالنّص الجَلي فِي عَليّ، ويَتحامَلون على الصحابَة رضي الله عنهُم))[18] .
الوقفَة الرّابعَة : وهي خلاصَة ما مضَى من الوقفَات أن تعلمَ أخي الباحث عن الحقّ أنّ الجاروديّة السّمحَة التي امتدَحها أئمّة الزيدية هي الجاروديّة القائلَة بالنّص الخفيّ ، والقائلَة بالتوّقف وعدَم السبّ للصحابَة ، فأمّا الجاروديّة الواقعَة والسابّة للمشائخ فإنّهم تيّارٌ لا يُمثّل زيدية اليمَن وإجماع أهل البيت (ع) ، وغايَة الأمر أنّهم يُمثّلونَ أنفُسهَم في هذه المسألَة ، لذلكَ نجد الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى (ع) يقول مُفرّقاً ومُبيِّناً صِدقَ استنباطِنا في المسألَة : ((وَمُتأخِّروا الجاروديّة يُخالِفون هَاتَين الفِرقَتين ، حَيث أثبتوا إمَامَة عَليٍّ بالنّص الخفيّ القَطعيّ ، وخطّأوا المشائخَ لمخَالَفَتِه ، ولَم يَقطعُوا بالتّفسيق ، واختلفُوا فِي جَواز التّرضية عَنهُم))[19] . قال[20] المؤرّخ يحيى بن الحسين بعد نقلِه لهذا القَول : ((وعَلى هَذا القَول صَارَ مُعتمَد جلّ الزيديّة المتأخِّرين ولَم تُتابِع مِنهم مَقالة الجاروديّة المتقدِّمين إلا الإمَام أحمَد بن سُليمَان)) ، وقال الأستاذ المعاصر محمد عزّان : ((وتُرَجِّح أكثرُ المدارِس العلميّة الزيديّة المُعاصِرَة التوقّف ، نَتيجة لاختلاف الرّوايات ، وتَباين الترّجيحات))[21] ، نعم! فهذه هي الجاروديّة التي عناها الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) بقولِه السّابق وبقولِه : ((ومَا يَلحق بِباب الزيديّة فِي أوّل الرِّسالة أنّهم ثَلاث فِرق: بَتريّة ، وصَالحيّة ، وجَاروديّة ، ومُعظمهم الجاروديّة وهُم أهلُ الحقّ مِنهُم، والآخرون قَد أخطئوا في بَعض الاعتقَاد))[22] ، فالإمام (ع) لا يُريدُ إلاّ الجاروديّة المُقتديَة بأهل البيت (ع) ، وإن كانَ مُسمّى فرقتهِم التي اشتُهروا بهَا هي لرجلٍ من شيعَة أهل البيت (ع) ، نعني أبا الجارود العبديّ ، وهُنا لا مُشاحّة في الأسماء ما دامَ الفرع يتبَعُ أصلَه ، فالأصلُ أهل البيت (ع) والانتماء إليهِم ، وهذا سنفصّله في المبحث الثالث بإذن الله تعالى ، وهذا الكلام الأخير فيه فائدةٌ عزيزَة لمَن وصَم الزيدية ماضياً وحاضراً بالسبّ واللّعن بالعُذر البارد وهُو الجاروديّة .
الوقفَة الخامسَة : أنّ تُلاحِظ أنّ الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) يُشيرُ إلى الجاروديّة الواقعَة في التّكفير أو التّفسيق كرأي ليس ثابتٍ ولا مَشهور عن أئمّة أهل البيت (ع) فنسبَ ذلكَ إلى المُحصّلين من الجاروديّة ، ولسانُ حالِه إثباتُ صحّة العَكس عن الجاروديّة الحقّة ، وذلكَ كلّه من قوله : ((وإن كَانَ الطّعن والسبّ مِن بَعض الجاروديّة ظَاهِراً، وإنمّا هَذا رَأي المحصِّلين مِنهُم)) ، فتدبّره تجده كما قلنَا .
القِسم الثّاني : نظرَة زيديّة اليمَن إلى الجاروديّة المذمومَة :
وهُنا أيضاً نجدُ أنّ مَجموع أقوال أئمّة وعلماء الزيدية في وصفِ الجاروديّة المذمومَة تتلخّص في أمورٍ أبرزُها ، القَول بالنّص الجَلي الموافق للإماميّة ، وتكفير وتفسيق المُتقدّمين على أمير المؤمنين (ع) ، وهذا مشهورٌ من أقوالهِم ، ومِن مزبورِ كتبهِم ودفاترهِم ، فنستغني باشتهارِه عن مزيدِ نقلِه ، إلاّ أنّنا نُشيرُ على بعضِه محُيلين القارئ على المراجع الزيدية[23] ، قال الإمام أحمد بن يحيى المُرتضى (ع) : ((فالجاروديّة مَنسوبَة إلى أبي الجارود زياد بن مُنذرٍ العَبديّ ، أثبتُوا النّص على عليّ (ع) بالوصفِ دونَ التسميَة ، وكفّروا مَن خالفَ ذلكَ النّص))[24] ، والتكفيرُ مذمومٌ عند الزيديّة ليسُوا عليه ، فالمشهورُ من مذهبهم التوقّف ، وبعض الأئمّة ذهبَ إلى الترضيَة مع إثبات التخطئَة والتقدّيم لأمير المؤمنين (ع) ، فهذه الجاروديّة عند أئمّة أهل البيت (ع) من زيديّة اليمَن وغيرَها ليسَت بالجاروديّة الممدوحَة ، فتنبّه لذلك باركَ الله علِمَك وفَهمَك لتُفرّقَ بين الجاروديّتين ، فليسَ الذّهب كالفضّة ، فأمّا مسألَة النّص الجليّ والخفيّ فإنّ الخلافَ حولَها في الاعتقاد ما ظهرَ لنا من اطّلاعنا على المسألَة على مذهب الزيدية إلاّ كونه خلافٌ لفظيّ لا يَعدو ذلكَ إلى غيرِه ، وإنّما الفَجوَة أتتَ مِن قِبَل التّكفير والتّفسيق عندما أصبحَ من قالَ بهِ مُلازماً لَه القَول بالنّص الجلي ، وهذه المسألَة ومُناقشتها قد تُخرجنا عن المُراد من هذه الرّسالة ، فنعودُ للمطلوب من هذا الإيراد وهُو أنّ القَول بالنّص الجلي الذي لازمهُ التّكفير والتّفسيق ليسَ بالضّرورة أن يكونَ مذهباً لمَن قالَ به من أئمّة الزيدية ، فلا يُقال عنه جاروديٌ عند التحقيق لمجرّد القول بالنّص الجلي .
المبحث الثّالث : الانتماء والإعتزاء الحقيقي للزيدية ، أساسُه ومَنبَعه :
هُنا ينبغي أن يتنبّه القارئ والباحث عن الحقيقَة أنّ الزيديّة في اتّباعِهَا وانتمائهَا لا تتبّع شيعَة أهل البيت وأقوالهم واجتهاداتهم دوناً عن أئمّة أهل البيت (ع) ، بل إنّ أصل اتّباعهم هُو اتّباع أئمّة أهل البيت (ع) ، سادات بني الحسن والحسين ، وأصلُ اعتزائهِم هُو لهذه العترة العلويّة الفاطميّة ، اتّباعاً لمَا تواترَ من قول الرّسول (ص) : ((إنّي تاركٌ فيكُم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّ اللطيفَ الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردَا عليّ الحَوض)) ، وكذا هُو حال العترَة قديماً وحاضراً حتى يوم النّاس هذا لا يعتزونَ إلى غير أهل البيت تسميةً واتّباعاً ، فإن قيل : فإنّا نجدُ الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) يقول : ((الزيديّة عَلى الحقيقَة هُم الجاروديّة ولا نَعلم فِي الأئمّة (ع) بَعد زيد بن علي (ع) مَنْ لَيسَ بِجَارُوديّ)) ، وهذا اعتزاءٌ ظاهرٌ من الزيدية لأبي الجارود بن المنذر العبديّ الهمداني ، وهذا يُناقضُ على مقدّمتكم القريبَة . ونُجيبُ على هذا بأنّ الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة (ع) كان يُخاطبُ المُستعلِمين على لِسَان العامّة وما اشتهرَ من طريقهِم بهذا القَول ، لمّا كانوا لا يعلمونُ من الزيديّة إلاّ تلكَ الفِرق التي رسمَتها وذكرتَها كُتب المِلل والنّحل ، فلا يعلمون إلاّ زيديّة جاروديّة ، وزيديّة صالحيّة ، وزيديّة جريريّة ، وزيديّة عجليّة ، وما إلى هذه الأسماء التي انتشرَت في كُتب العامّة ونقلَها عنهُم الخاصّة من مُصنّفي أهل البيت وشيعتهِم المُتأخّرين ، فكان لسانُ حالِ الإمام المنصور بالله (ع) يقول أنّه وإن كانَ و لَم تعرفوا من الزيديّة إلاّ هذه الفِرَق فإنّ الزيديّة التي تُوافقُ قولَنا من الِفرق التي تعرفونهَا في كُتبكم هي الزيديّة الجاروديّة فنحنُ جاروديّة باعتبارِ إطلاقِكم وما عرفتموه من فِرق الزيديّة ، ثمّ فرّق الإمام حال الجاروديّة باعتبار التوقّف دون التّكفير والتّفسيق ، فكان هذا تصحيحٌ لمفهومهِم عن الزيديّة ، أو يكون لسان حالهِ يقول الجاروديّة هي الأقربُ إلينَا عدا قولِهَا بالسبّ والشّتم ، فنحنُ زيديّة جاروديّة لا نسبّ ولا نرتضي هذا ، وهذا فوجهه بيّن لمَن تدبّره وتأمّله ، وإلاّ فإنتماء الإمام المنصور بالله (ع) الذي عليه أساس مذهبِه ليس الاتّباع أو التّقليد لقول أبي الجارود الهمدانيّ ، بل أساس انتمائه واعتزائه هُو لأئمّة أهل البيت (ع) ، سلفُه سادات بني الحسن والحسين ، فما لقولِ أبي الجارود عند المنصور بالله (ع) من وزنٍ إزاء إجماعات أهل البيت (ع) ، فالله إنّما أمرنَا باتّباع أهل البيت ، وبل إنّك تجدُ الإمام المنصور بالله (ع) يذكرُ مشهاهير رجالِ الزيدية من الشيعَة فما يذكُر أبا الجارود منهُم ، فقال (ع) : ((ومن مشهور رجال الزيديّة الحسن بن صالح بن حي ، وأخوه علي بن صالح))[25] ، ثمّ ذكرَ رجالاً آخرين لم يذكُر منهُم أبو الجارود ، فلَو كانَ الإمام (ع) بقولِه القريب يُريدُ نسبَة الاعتزاء الحقيقي لمَا خلا مُصنّف من مُصنّفاته ، وناهيكَ بهَا من مُصنّفات ، من ذِكر أبي الجارود بن المُنذِر ، وهذا الكلام يُوجّه لعموم زيدية اليمَن فإنّهم ما يحتجّون بقولِ وفِعل أبي الجارود كما يحتجّون بأقوال وأفعال جماعَة ولد الحسن والحسين صلوات الله عليهم وعلى جدهّم ، فكان كلّ هذا أخي الباحث دليلٌ صامدٌ على مُرادِنا من هذه الرّسالَة من عدَم انتماء واعتزاء زيديّة اليمَن للجاروديّة التي حرّرت أقوالَها كُتب المِلَل والنِّحل نسبَةً إلى أبي الجارود زياد بن المُنذر ، إلاّ أنّ البعض الكثير للأسَف لا يُعجبُه هذا الكلام فيُصرّ على أنّ زيديّة اليمَن جاروديّة ويتمسّك بذلكَ المُتشابَه من كلام الإمام المنصور بالله (ع) دون أن يُحقّق مقصدَ الإمام منه ، فيُطلِق هذا القَول على زيديّة اليمَن تنفيراً للنّاس عنهُم وعن نظرتهِم المُتسامِحَة للشريعَة الإسلامية بعموم ، وللصحابَة على وجه الخُصوص ، فنجدُ مثلاً الشيخ مُقبل الوادعي يقول : ((مَن الذي قسَّم أهل اليمن إلى جَاروديّة وسُليمانية وصَالحية ؟ ، وكلّ هَذه الثلاثة طَوائف مَوجودَة فِي اليمَن والذين أسّسوا هَذه الطّوائف فِي اليمَن هُم غُلاة التشيّع)) ، فأجابَ عليه العلامَة بدر الدّين بن أمير الدّين (ع) ، قائلاً : ((هَذا إفكٌ مُبينٌ على أهل اليمَن ، فَهم لا يَنتمون إلاَّ إلى الكتاب ، والسنّة ، وأهل البَيت (ع) ، وكُتبهم فِي العَقائد شَاهدة بأنّهم لا يَتّبعون أحَداً مِن زُعمَاء هَذه المذاهِب كمَا يَنتمِي الأشعريّة إلى الأشعريّ ، أو الوَهّابية إلى محمّد بن عبد الوهاب ، وإن وَافق بَعضهم مَذهبَ أبي الجارود سمّي جَارودياً لا بِمعنَى أنّه مُتّبع لأبي الجارود ، لأنّهم لا يَعتبرونَه إمَاماً لَهم إنّما الأئمّة أهلُ البَيت (ع) ، وأوضَح شَيء انتمَاؤهُم إليهِم ونَقلُهم لنصُوصِهم واحتجَاجُهم بِحُجَجِهِم وقراءتِهم كُتُبَهُم، فَكلامُ مُقبل هَذا تَضليلٌ وتَدليس ، ومَن شكّ فِي الحقيقَة فَليقرَأ كُتبَهُم ، إلى أن قَال: إن هَذا تَعميَة وتَلبيس فَالمذكُورون غَير عُمدَة فِي عَقائد الزيديّة فِي اليَمن ، فلا مَعنى للجدال فِيهم فِي هَذا المقَام))[26] ، نعم! ، والحقّ أنّه فعلاً لا معنى للجدال في هذا المَقال والمَقام فالزيديّة وكتُبهُم وأئمّتهم وعُلمائهم وشيعتهُم يقولون نحنُ نتبّع أهل البيت وعُلومَهم ، والمُخالف المُستلذّ للتّدليس يقول أنتُم تتّبعون أبا الجارود ، وهذا شيءٌ عجيب . نعم! ثمّ إنّه واجبٌ علينَا وقد قُلنا ما قُلنا في أبي الجارود أن نُبيِّن أنّ لهذا التّابعيّ منزلَة المُحدّث الثّقة الثّبت المُناصر لأئمّته من بني فاطمة فما هُو بصاحبِ المنزلَة القليلَة عند زيديّة اليمَن وأئمّة أهل البيت حالُه كحالِ غيرِه من رجال الزيديّة ، نعني الحسن بن صالح بن حيّ ، وأبا خالد الواسطيّ ، ومحمد بن منصور المُراديّ ، وغيرهم من رجالات الزيديّة وأعلامهِم ، وإن كان صحّ ما نُسِبَ إلى أبي الجارود من السبّ والتّكفير والتّفسيق لمَن تقدّم على أمير المؤمنين (ع) ، فإنّه لا يصحّ هذا منه في التبعيّة لأئمّة أهل البيت (ع) لمّا ثبتَ عنهُم خلافُ هذا فهُو رأيٌ يخصّه ، ونحنُ فلسنا مُلزمِين به ، فاتّباعنا هُو لسادات أهل البيت ثَقل الله الأصغَر في الأرض ، وهذا واضحٌ من حالِنا وحال أصحابنا من الزيديّة بعموم ، زيديّة اليمَن أو الحجاز أو الكوفَة أو الجيل والدّيلم وطبرستان ، والحمد لله ربّ العالمين .
وبهذا وما مضّى نختمُ رسالتنا هذه حول علاقَة زيديّة اليمَن بالجاروديّة ، مُنبّهين أنّ الإمام شيخ آل الرّسول عبدالله بن الحسن بن الحسن (ع) هُو القائل : ((العَلم بَيننا وَبين هَذه الأمّة عَلي بن أبي طالب ، والعَلم بَيننا وبَين الشّيعَة زَيد بن عَلي ، فمَن تَبعَه فَهو شِيعيّ ، ومَن لم يَتبعه فَليس بِشيعيّ))[27] ، وابنهُ النّفس الزكيّة الإمام محمّد بن عبدالله بن الحسن (ع) هُوَ القائل : ((أمَا ولله لَقد أحيَا زَيدُ بن عَلي مَا دُثِر مِن سُنن المرسَلين ، وأقامَ عَمود الدِّين إذِ اعوَجّ ، ولَن نَنحوَ إلا أثرَه ، ولَن نَقتَبِسَ إلاَّ مِن نُورِه ، وزَيدٌ إمَام الأئمّة))[28] ، والإمام الهادي إلى الحقّ يحيى بن الحسين بن القاسم (ع) هُو القائل : ((وَالحمدُ لله ، وأنَا مُتمَسِّكٌ بأهلِ بَيت النبوّة ، ومَعدِن الرِّسالة ، ومَهبط الوَحي ، ومَعدن العِلم ، وأهلُ الذِّكر ، الذين بهم وُحِّد الرّحمن ، وفِي بَيتهم نزَل القرآن والفُرقان ، ولَديهم التّأويل والبَيان ، وبِمَفاتيح مَنطِقِهم نَطقَ كلّ لِسَان ، وبذلك حَثّ عَليهم رَسول الله (ص) بِقوله: ((إنّي تَاركٌ فِيكُم الثّقلين لَن يَفترقا حتى يَرِدا عَليّ الحوض ، كِتاب الله ، وعِترتي أهل بيتي ، مَثلهُم فيكُم كسفينَة نوحٍ مَن رَكبهَا نَجا ، وَمن تخلّف عَنها غَرِق وهَوى)) ، فقد أصبَحوا عِندي بِحَمد الله مَفاتيحُ الهُدى ، ومَصابيح الدّجى ، لَو طَلبنا شَرق الأرض وغَربها لَم نَجِد في الشّرف مِثلَهم . فَأنا أقفوا آثارَهم ، وأتمثّل مِثالَهم ، وأقولُ بِقولِهم ، وأدينُ بِدينِهم ، وأحتذي بِفعلِهم))[29] ، نعم! وهؤلاء لم يكونوا في يومٍ من الأيام ، أو لحظةٍ من اللّحظات مُعتزين مُنتسبين إلى أبي الجارود أو غيره من شيعَة أهل البيت (ع) ، دوناً عن آبائهِم وسلفهِم من بني فاطمة ، هذا وصلّى الله وسلّم على سيّدنا محمّد النّبي الأمين ، وعلى أهل بيتِه الطّيبين الطّاهرين .
وكَتبه : الشّريف أبو الحسَن الرّسي ، غفر الله له ولوالدَيه وللمؤمنين .
يوم الجمعة الموافق 10/4/1431هـ .
====================================
[1] المصابيح: 401 .
[2] مقاتل الطالبيين:128.
[3] الكاشف:1/413.
[4] تقريب التهذيب :221 .
[5] تهذيب التهذيب:3/333 .
[6] الكامل في الضعفاء:3/190 .
[7] مقالات الإسلاميين:67 .
[8] فرق الشيعة:21 .
[9] مقالات الإسلاميين:67 ، الفرق بين الفرق:23 ، الفصل في الملل والنحل:4/137 .
[10] مقالات الإسلاميين:67 ، الفَرق بين الفرق:23 .
[11] مقالات الإسلاميين:67 ، الفَرق بين الفرق:23 .
[12] التنبيه والرّد على أهل الأهواء والبِدع:23 .
[13] تهذيب الكمال:9/520 ، ميزان الاعتدال:3/137 .
[14] نُريد بذلك التفصيل لا الإشارَة ، وإلاّ فالإمام أحمد بن سليمان أشار إلى عقيدة أبي الجارود في تكفير من خالفَ النّص في كتابه حقائق المعرفَة ، وكذلك أشار صاحب المحيط بالإمامة كما سَمعنا بدون أن نطّلع عليه ، وهؤلاء مُتقدّمون على عصر الإمام عبدالله بن حمزة (ع) .
[15] مجموع السيد حميدان:319.
[16] المجموع المنصوري الجزء الثاني القسم الثاني:352.
[17] منهاج السنة النبوية:4/271 .
[18] المستطاب: مخطوط .
[19] المعراج إلى كشف أسرار المنهاج:مخطوط ، المستطاب: مخطوط .
[20] لم أقِف على حقيقَة هذا القَول هل تابع لكلام الإمام المهدي ، أم أنه كلام للمؤرخ يحيى بن الحسين ، وأي كان فالمُراد منه ظاهر .
[21] الصحابة عند الزيدية .
المجموع المنصوري الجزء الثاني القسم الثاني:469 .
[23] انظر : الإيضاح شرح المصباح:302 ، المعراج إلى كشف أسرار المنهاج: مخطوط ، بلوغ الأرب وكنوز الذهب ، الدراري المُضيئة الموصلة إلى الفصول اللؤلؤية ، وغيرها .
[24]مقدّمة البحر الزّخار:40 .
[25] الشافي:1/449.
[26] تحرير الأفكار .
[27] الكاشف الأمين عن جواهر العقد الثمين .
[28] تيسير المطالب في أمالي أبي طالب:265 .
[29] مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي إلى الحق:كتابه لأخل صنعاء.